أيّ حديث عن وضع الإسلاميين في «مصر الجديدة» يبدو غير ذي معنى إذا ما اعتمد على نفس معطيات وخرائط دراسة الحالة الدينية في مصر، وإذا ما تجاهل أن الذي جرى هو ثورة هدمت كل المستقر والثابت في المشهد الديني المصري. لم تكن الثورة فقط على النظام السياسي الغارق في الديكتاتورية والقهر والفساد الذي يعتمد على تحالف مافيات المال والإجرام والحكم، لكنها كانت أيضاً ثورة ضد المؤسسات الدينية لهذا النظام، والخطاب الديني الداعم لاستمراريته، سواء كان دعماً مؤسساتياً مباشراً، أو غير مباشر من فاعلين ينفصلون عن النظام، لكن يلتقون معه في رفض الثورة. مثلما وضعت الثورة المصرية الإسلاميين على اختلاف أطيافهم في حجمهم الطبيعي، كقوة في الشارع، لكنها ليست القوة الوحيدة، ولا حتى في صدارة الانتفاضة، فقد أعادت ترسيم المشهد الديني بكامله، وحددت موقع الشارع المصري من الدين ومؤسساته وخطاباته المختلفة، بحيث بدت لنا النتيجة مذهلة، وما كان لأحد أن يتوقعها: المصريون متديّنون، لكنهم قادرون على تجاوز كل سلطات المؤسسات الدينية، وتحدّي كل الخطابات الدينية حين تكون جزءاً من كيان نظام فاسد وقمعي أو داعمة لاستمراره.
كانت المؤسسة الدينية الرسمية الأكثر خسارة في الثورة والأكثر تعرُّضاً لتحدياتها، وهذا لا يصدق على المؤسسة الدينية الإسلامية فقط، بل المسيحية أيضاً.
لقد تخلّفت مؤسسة الأزهر كثيراً عن المشهد، وانتظرت طويلاً حتى خرج شيخها أحمد الطيب ببعض تصريحات لم يكن فيها منحازاً بشكل صريح وفجّ لمصلحة النظام، لكنها كانت أقل بكثير من جلال الثورة. بالطبع لم يكن المنتفضون ينتظرون ثورة من قيادة المؤسسة الدينية الأعرق في العالم الإسلامي، وهم ما انتظروا رأيها حين قاموا بثورتهم، لكن كانت توقعاتهم أن جلال الثورة كان يفرض على الأزهر خطاباً مختلفاً. إلا أن هذه المؤسسة لم تغيّر كثيراً من خطابها كمؤسسة دينية سنّية أشعرية ورسمية مرتبطة كلياً بالدولة، سواء في هيكليتها أو في موازنتها، ولا تملك أدنى استقلالية.
دعا الأزهر إلى الهدوء حين كانت الثورة في أوجها، وأعلن رفضه اقتتال المصريين، قافزاً على حقيقة أنّ الذي جرى هو اعتداء مشين وإجرامي من قبل النظام، بمساعدة المجرمين والبلطجيّة على الثوار في ميدان التحرير، واكتفى بكلام عام يصبّ في إطار إنهاء الثورة، من دون أن يتطرّق إلى النظام بشيء. غير أن ما خفّف من وطأة موقف الأزهر هو ما أعرب عنه من تقدير للشباب الثوري، ودعوة شيخه لهم للحوار، واستقالة المتحدث الرسمي باسمه، السفير محمد رفاعة الطهطاوي، والتحاقه بالمتظاهرين، وكذلك مشاركة دعاة وأئمة منه في تظاهرات التحرير بلباسهم المميز.
وعلى تواضع موقف الأزهر وتأخره عن حركة الثورة المصرية، إلا أنه لم يصل إلى ما وصله موقف دار الإفتاء، التي عملت ما في وسعها لتقديم الإسناد الديني للنظام، والذي وصل إلى ذروته يوم «جمعة الرحيل» بفتوى المفتي علي جمعة بعدم الخروج لصلاة الجمعة، وهي المناسبة الأهم التي دائماً ما يعوّل عليها الثوار في حشد الشارع عقب الصلاة. مرّت 14 يوماً كاملة من الثورة، وبدا واضحاً أن الجماهير لم تلتفت أصلاً إلى المؤسسة الدينية الإسلامية، وما أعارت أذنها لفتوى علي جمعة التي جاء الرد عليها بالنزول لصلاة الجمعة في المساجد، والانطلاق بأعداد مليونية للتظاهر، وعياً منهم بأنها فتوى سياسية لدعم النظام دينياً، وسبق أن تكررت منه كثيراً حين أفتى بأن شباب الهجرة غير الشرعية الذين يموتون في قوارب الموت هم «منتحرون وليسوا شهداء».
أما موقف المؤسسة الدينية المسيحية الأبرز (الكنيسة القبطية الأرثوذكسية)، فكان النموذج الأكثر فجاجة في الانحياز للنظام والالتصاق به. لقد رفض البابا شنودة تظاهرات يوم الغضب، ودعا الأقباط إلى عدم المشاركة فيها، وشدد طوال الثورة على عدم الخروج إلى التظاهر أو المشاركة في فعاليات الثورة، وهو ما رفضت غالبية قبطية الالتزام به، فنزلت إلى الشارع اعتراضاً عليه. إنّ تحولاً مهماً في الحالة الدينية المسيحية يتناغم مع الثورة يتمثل في أن أكبر نقد للكنيسة وانحيازها السياسي والتزام رأسها في احتكار التمثيل السياسي للمسيحيين يأتي هذه المرة من داخل الأقباط أنفسهم، سواء بعشرات المقالات والبيانات التي تنتقد حصر الصوت المسيحي وراء أسوار الكنيسة وليس في أحزاب وبرامج سياسية، أو برفض تعبئته وراء نظام مرفوض ومكروه من الشعب. لقد كانت المشاركة المسيحية في الثورة، وخصوصاً من الشباب، ثورة أخرى على هيمنة الكنيسة على قرارهم السياسي من ناحية، وعلى فصلهم عن الشارع ضمن معادلة «طائفية» يجري فيها استغلالهم لمصلحة نظام مبارك لأجل ضمانات وامتيازات لا يمكن أن تتحقق على أرض الواقع فعلياً، فضلاً عن أنها تعزلهم عن الحركة السياسية وعن مجمل حركة الشعب المصري.
أما عن وضع القوى السياسية في التيار الإسلامي، فهي تنقسم بدورها إلى شقّين: قوى كانت جهادية مسلَّحة خاضت معارك مع النظام، قبل أن تراجع نفسها وتتجاوز العنف، وأخرى سلمية أهمها الإخوان المسلمون.
وباستثناء بيان لعبود وطارق الزمر، القياديين الجهاديين الداعمين للثورة، كان موقف الجماعة الإسلامية وبقية التيار الجهادي المتحول عن العنف أميل إلى التهدئة وإيقاف الثورة. أبرز مواقف الجماعة كان ممثلاً في رفض إسقاط مبارك والاكتفاء بعدم ترشيحه مستقبلاً. هكذا كتب أبرز قادتهم مقالاً بعنوان «أكرموا عزيز قوم» من دون أن يشأ إكماله بـ«عزيز قوم ذل». إضافة إلى ذلك، وردت دعوة لأن تشارك الجماعة في الحوار الوطني، رغم أنها كانت مستبعدة تماماً قبل الثورة من أي نقاش سياسي، وهي لم تشارك مطلقاً في أيّ من فعالياتها... وكانت لافتة الاستجابة الفورية للنظام الذي دعا الجماعة الإسلامية إلى المشاركة في الحوار، وهو ما قد يكون جزءاً من استراتيجية لإدخال فاعلين كثر ومختلفين، بقصد تعميم النقاش حول مطالب مختلفة لا تتصل مباشرة بمطالب الثورة، وطرح أجندات متعددة وربما متشرذمة تفتح لإطالة أمد الحوار، من دون تلبية أي منها.
أما «الإخوان المسلمون»، فرغم استمرار نزولهم إلى الشارع وعدم الانسحاب منه، فإن تحولاً لافتاً في موقفهم طرأ أول من أمس، عندما وافقوا على المشاركة في الحوار الوطني قبل رحيل الرئيس حسني مبارك. وبرروا موافقتهم بأنهم سيتحاورون مع نائب الرئيس عمر سليمان بالقول، إن التفاوض سيكون على رحيل مبارك. لكنّ المؤكد هو أنّ الإخوان تنازلوا فعلياًَ عن مطلب رحيل الرئيس، وأنهم دخلوا فعلاً في صيرورة الحوار وفق ما طرحه النظام لا وفق ما طرحوه هم في البداية.
ثمة شكوك تقليدية في أن «الإخوان» يظلّون دوماً أقرب إلى النظام حتى في خيالهم السياسي، وأنهم دائماً راغبون أو أقلّه قابلون في التقرُّب منه حتى وهم ينتفضون ضده. ثمة ضغوط كبيرة تحكم قرار «الإخوان» في كل ما يتصل بالدولة، أهمها الرغبة العارمة في تجاوز المنع القانوني الذي صار أقرب إلى تهمة يرفعها النظام دوماً في وجههم. وهناك أيضاً الرغبة، ربما المتسرِّعة، في ترجمة مكاسب هذه الثورة في نقلة للوضعية القانونية والسياسية للجماعة، وفي الحياة العامة محلياً ودولياً، بعدما أصبحوا يُدعَون إلى الحوار الوطني مع نائب الرئيس على قدم المساواة مع الأحزاب الرسمية. لكن، يبقى المحرك الأكبر للإخوان هو العقلية، وربما النفسية التي يتعاطون بها مع الثورة.
يثور الإخوان، أو بالأدق يشاركون في الثورة بنفسية ما قبل الثورة، ويرسمون مسارهم السياسي ويحددون خياراتهم السياسية بعقلية ما قبل الثورة. يتصرف الإخوان حتى الآن، وقبل أن يغادروا مواقع الثورة، بنفس العقلية والنفسية التي كانوا عليها قبل ثورة 25 كانون الثاني، وكأن شيئاً لم يحدث، وكأن ثورة لم تندلع ونظاماً لم يتضعضع ويوشك على السقوط.
ثمة مشهد حدث في الإسكندرية يمكن أن يشرح ذلك: كان المتظاهرون أكثر من مليون ونصف مليون يمثلون ربع مواطني هذه المدينة، طافوا كل الشوارع وملأوا كل الفضاءات وتحركوا وثاروا وهتفوا وصرخوا وطالبوا وتفاعل معهم الناس. وكان «الإخوان»، مثل بقيّة الشعب، جزءاً من الثورة. قام خطيبهم وملأ الدنيا خطابة وثورة. ثمّ لما أعياه التعب، قام فتلا الدعاء التقليدي: سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك، وأكمل بتلاوة سورة العصر... ودعا الناس للانصراف راشدين!
لا يزال الزعيم الإخواني، وهو مخلص في الالتحام بالثورة، يفكر بنفس العقلية الإخوانية التقليدية التي يبدو أنها لم تغيّرها الثورة. لا مانع لديه أن يقف ليخطب بالساعات في جموع لم يجمعها ولم يحلم يوماً باجتماعها. ثم إذا شعر بالتعب وبأن التظاهرة زاد وقتها وأنه لا طاقة له على الاستمرار، لا يجد مانعاً من أن يدعوها إلى الرحيل من دون أن يسأل نفسه فضلاً عن أن يسألها: هل لا يزال لدى الناس طاقة وصبر للاستمرار؟ وهل يجب أن تنصرف الجماهير لأنه هو تعب ولم يعد لديه ما يقوله؟ وهل لا بد أن يكون في حيازته دليل الثورة وحركتها ومطالبها؟ إنها أزمة من يتعاملون مع الثورة بنفسية ما قبل الثورة. ويفكرون للثورة بعقلية حدّدت سقف الثورة ربما قبل أن تحلم بها.
(غداً الثورة والسلفيّون)