الإسكندرية| ليس معروفاً على وجه اليقين من أطلق الدعوة إلى تظاهرات 25 كانون الثاني التي زامنت عيد الشرطة والتي كانت شرارة الثورة التي لم تتوقف حتى كتابة هذه السطور. لكن المؤكد أنها لم تكن من حزب أو تيار سياسي معين، والأكثر تأكيداً أن التيار الإسلامي كان الأبعد عن إطلاق شرارة الثورة ابتداءً أو قيادتها لاحقاً، فضلاً عن أن تكون ثورته.
لقد أعلن التيار السلفي رفضه للتظاهرات قبلها بأيام، وأكدت مدرسة الدعوة السلفية في عدة بيانات لها رفض التظاهر، بل نشرت على موقعها (صوت السلف) وفي فتوى لأبرز زعمائها ياسر برهامي أنها لا تبيح التظاهر وتحذر منه، وعلى الرغم من تحول هذه التظاهرات إلى ثورة شعبية عارمة، ما زال التيار السلفي في الإسكندرية يرفض التظاهر، وهو ما ينطبق على مجمل الحالة السلفية في مصر عامة. نعم، تحسن خطابه كثيراً، وتعدلت ممارساته، وكانت إيجابية في كثير من النواحي، مثل الدعوة إلى حماية الممتلكات العامة والخاصة، وفي مقدمتها ممتلكات المسيحيين والأجانب وتحريم الاعتداء عليها والقول بوجوب التصدي للبلطجية واللصوص، والمشاركة الميدانية في إنشاء اللجان الشعبية التي صارت المساجد مقارّ لعملها، كذلك الفتوى بتحريم الاستغلال ورفع الأسعار أثناء الثورة، والتحرك فعلياً لإيجاد حلول عملية لمواجهة هذا الاستغلال بتأليف مجموعات لشراء الخضروات والسلع الغذائية من مصادرها وإعادة بيعها بأسعار رخيصة للأهالي. حدث كل هذا التطور في خطاب التيار السلفي وممارساته، لكن ظل بعيداً عن الدور السياسي أو المشاركة الفعلية في الثورة عبر التظاهر.
ليس هناك معطيات كاملة عن التيار الجهادي الذي أجرى مراجعات للعنف، وتحول إلى حركة سلمية. لم تصدر عنهم بيانات تحدد موقفهم من الثورة، كذلك فإن معظم رموزه لا يجيبون على هواتفهم، لكن الرصد العام يقول بغيابهم التام عن التظاهرات، وهذا أمر مفهوم ومتوقع لآلاف من الإسلاميين ما زالت قبضة الأمن وعنفه حاضرين في وعيهم بعد سنوات طويلة قضوها في أسوأ الأوضاع داخل أسوأ السجون، فضلاً عن أنهم شهدوا تصفية المئات منهم خارج حكم القانون.
أما جماعة الإخوان المسلمين، وبطبيعتها السياسية، فلم تسلك بالتأكيد المسار السلفي وتقاطع التظاهرات وفاعليات الثورة. لكنها لم تكن قط في طليعتها، سواء في إطلاق شرارتها أو قيادتها ميدانياً. لقد تردد الإخوان أياماً في الموقف من تظاهرة الثلاثاء 25 كانون الثاني التي أطلقت الثورة، وحين حسموا قرارهم إيجابياً كان محدداً بالمشاركة الفردية لكوادر الجماعة وقواعدها مثل بقية أفراد الشعب، لا المشاركة بقرار مركزي للجماعة يتبنى التظاهرة ويفرض على أفرادها المشاركة. بل كان هناك قلق وترقب من المشاركة، وأكدت الجماعة ضرورة عدم الانسياق وراء خطاب الشباب الثوري، وخاصة في ما يخص الإساءة إلى الرئيس مبارك مباشرة. وحتى لما نجحت تظاهرة اليوم الأول، لم يبادر الإخوان إلى الانغماس كلياً في فاعليات الثورة، بل ولحد تظاهرة يوم الجمعة (جمعة الغضب 28 يناير)، كانت مشاركة مجموعة الشباب الثوري غير المؤطر سياسياً في أحزاب أو تنظيمات متقدمة كثيراً جداً على الإخوان المسلمين، الذين لم تختلف مشاركتهم كثيراً عن مشاركة الشارع المصري الذي كان قد هجر السياسة والعمل العام منذ عقود، وفقد الأمل في جدواها وفقد الثقة في كل التنظيمات والأحزاب السياسية.
لقد تعدل موقف الإخوان كثيراً بعد نجاح تظاهرات يوم جمعة الغضب، الذي كان يوم ميلاد جديد للشعب المصري، انتقل فيه من شعب معروف بالصبر والصبر الجميل وصبر الجمال، إلى شعب الثورة الغاضب، ومن غضبه وثوريته أخذ الإخوان الجرأة على المبادرة، وبدأوا تغييراً متدرجاً، لكنه مهم في موقفهم. لقد تطورت المشاركة الإخوانية منذ ليلة الجمعة وأخذت شكلاً تصاعدياً انتهى إلى مشاركة جذرية حاسمة لا رجعة فيها. لذلك أسباب كثيرة، بعضها يتعلق بوضعية انهيار الدولة وجهازها الأمني القمعي، الذي كان الإخوان من ضحاياه وما زالت آثار عنفه وبطشه ماثلة في أذهانهم، وبعضها يتعلق أيضاً بحجم الغطاء الشعبي الكثيف الذي لا يجعل تياراً بعينه يشعر بأنه قد يدفع الثمن منفرداً كما تكرر كثيراً مع الإخوان. هناك أيضاً المسلكية البراغماتية التي لا تقبل بأن يغيب الإخوان عن هذا الحدث، الذي يؤذن بميلاد دولة مصرية جديدة يبحث فيها الإخوان عن مكان وشرعية. لكن الأهم أن الوضع وصل إلى مرحلة اللاعودة، فثمة يقين يثير الفزع لدى الإخوان، أكثر من غيرهم، بأنه إذا فشلت الثورة فستكون رؤوسهم الحصاد المر!
لم تخل فاعليات الثورة المصرية وتظاهراتها التي اجتاحت كل شوارعها من استعراض إسلامي إخواني مفتعل مرة وتلقائي مرات، لكن مجمل المشاركة الإخوانية لم تخالف مجرى نهر الشارع المصري الواسع ولم تتميز عنه إلا بمقتضيات الاختلاف والتمايز التاريخي في السمات الظاهرة كالزي وبعض التيمات في التعبيرات والسلوك. والمثير للانتباه هو تجاوز الشارع لمثيرات الفرز والانقسام مع الحركة الإسلامية، بل وابتلاعها، وهضمها ضمن مسار الثورة دون حساسيات، إلا ما قد يفكك إجماع الشارع على الثورة. مواقف في مسيرة يوم جمعة الغضب التي امتدت مسافة 16 كيلومتراً سيراً على الأقدام، ولكل منها دلالة واضحة، في فهم موقع الإسلاميين مما يجري من وقائع الثورة المصرية، الأول أنه لما انتظم الشارع لصلاة المغرب وبدأ المتظاهرون الصلاة، حاول بعض الإسلاميين فرض منطقهم، من خلال آراء فقهية لا تجيز الصلاة بالأحذية، أو ضمن صفوف تخترق بعضها النساء والفتيات، فما كان إلا أن تلقى رداً صارماً، لكنه هادئ بأن يُشغَل بنفسه وحسب! كذلك فإنه ساعة الصلاة توقف المسيحيون وبعض المسلمين ممن لا يصلون للراحة والتدخين وتنظيم حركة السير وجلب المياة والغذاء للجميع. أما الشعارات التي أنتجها المتظاهرون من وحي اللحظة والحدث، فلم تكن فقط غارقة في الوطنية المصرية الجامعة لكل المصريين ومطالبة بالحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية، بل وكذلك متجاوزة لمحظورات طالما حرص الإسلاميون على تجنبها، بل وشدد بعضهم في تحريمها، فرفع المتظاهرون شعارات من مثل (يحيا الهلال مع الصليب) و(مسلم مسيحي كلنا لمصر). أما الأكثر دلالة، فهو أن الإسكندرية لم تحدث فيها حالة احتقان طائفي واحدة منذ بداية الثورة، كنيسة القديسين التي كانت آخر ضحايا الطائفية تولى حمايتها شباب مسلمون، بعد أن فرت أجهزة الأمن وتخلت عن مسؤوليتها، ثم لم تعد هناك حاجة أصلاً لحمايتها. إن آلاف الكنائس في مصر، لا في الإسكندرية وحدها لا تحتاج إلى حماية من أحد بعدما كانت أشبه بثكنات لأجهزة الأمن التي لا تفارقها.
واحدة من نتائج الثورة العظيمة أنها وضعت الحركة الإسلامية في وضعها الحقيقي وقدرت بإحكام وزنهم الدقيق في الشارع المصري، هم قوة حقيقية ومعتبرة، لكنها ليست الوحيدة، قد يكون لها تأثير وفاعلية لكنها مشروطة بالاستجابة لمشاعر الناس ومطالبهم الحقيقية بعدما ملّوا رطانة الأيديولوجيا ولعبة الصراع على الشارع عبر مجرد شعارات أو من خلال قضايا مفتعلة. الجميل أن الفرز لم يحدث حتى كتابة هذه السطور، الكل يؤجل الفرز لما بعد تحقيق أهداف الثورة، وساعتها سيحدث لا شك، لكن ساعتها سيكون المشهد مختلفاً تماما، بل أعتقد بيقين أن المستقبل سيكون مختلفاً جذرياً بحيث لا تصلح في فهمه أي من أدوات التحليل التي كنا نعتمد عليها في دراسة الحالة الإسلامية. إنها ثورة.
الثورة المصرية ليست هي الثورة الإسلامية في إيران، رغم أن التدين لم يفارقها لحظة، بل يمكن القول إنها ليست حتى استعادة لثورة يوليو التي قامت قبل ستين عاماً، فهي لا ترفع مطالب قومية ينفرد بها المصريون، بل تلتئم ضمن مطالب إنسانية عالمية: الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية.