وصلت حال الرئيس المصري حسني مبارك وأركان نظامه إلى وضع ربما لم يكن أحد يتوقع أن يصل إليه إلا المجانين. فقد ترجم بلطجيته، أمس، حرفياً مضمون ما جاء في كلمته السياسية التي ألقاها ليل أول من أمس، وهي التي رفضها المصرّون على رحيله هو ونظامه بحد أقصى يوم الجمعة المقبل، المقرر أن يكون «يوم الرحيل». وصَف مبارك ملايين المتظاهرين بالمخربين والانتهازيين والمندسّين، وجزم بأنه لن يغادر السلطة وأنه مصمم على البقاء في مصر، فترجم كلامه في اليوم التالي بأن أرسل للمتظاهرين المعارضين له، جماعات تكفي الصور الآتية عنهم على شاشات التلفزيونات لوصفهم بالعصابات الحقيقية. قتل واعتداء وجِمال وخيول وسيوف وخناجر وسياط وحجارة وأسلحة آلية وقنابل مولوتوف وأخرى مسيلة للدموع ومواد حارقة... كل أدوات العصابات كانت موجودة بأيدي مئات، لا بل آلاف ممّن سرعان ما ظهرت حقيقتهم: عناصر من الشرطة بزي مدني، إضافة إلى عناصر من الحزب «الوطني» الحاكم ومساجين ممن أطلق سراحهم بأوامر وزيري الداخلية السابق حبيب العادلي والحالي محمود مجيد، مع مأجورين اعترف من أُمسك منهم بأنهم تقاضوا حفنة من المال لتحقيق هدف واحد، ألا وهو ترهيب المنتفضين لعزل الثورة ومنع تحقق «يوم الرحيل» الجمعة.
اعتداءات رهيبة منسّقة ومخطط لها مسبقاً أوقعت أكثر من 1500 جريح وقتلى اعترفت وزارة الصحة بأن عددهم وصل إلى 3. حتى مؤسسات الإسعاف الطبي كانت مزودة بأوامر بعدم نقل الجرحى إلى المستشفيات، ما اضطر المتظاهرين إلى استحداث عيادات ميدانية عمل فيها متطوعون بوسائل إسعاف أولية لمعالجة الإصابات التي تركّزت في الرأس والعيون. كل ذلك حصل أمام مرأى العالم وشاشات فضائية «الجزيرة»، ولم تقابلها عواصم الغرب إلا بدعوات استهجانية ومستنكرة، في ظل حياد غير مفهوم للجيش المتفرج على الجريمة المنظمة، وضعف واضح للمعارضة المصرية.
وبدا أن هدف خطة النظام كان واحداً: السيطرة على ميدان التحرير و«تحريره» من المتظاهرين بأي ثمن، على قاعدة أن هذا الميدان هو الذي يحسم مصير الانتفاضة الشعبية المصرية. والسيطرة تكون عبر خطوات ترجمها عناصر البلطجية: ترهيب أهل الميدان، وهو ما بدأ منذ انتهاء كلمة مبارك.
استفاقت مصر يوم أمس على تظاهرات مؤيِّدة للنظام في الجيزة وساحة المهندسين وأماكن أخرى تنفيذاً لأوامر الحكومة، وتحديداً وزير الإعلام أنس الفقي والداخلية محمود مجيد. هكذا أوحت تظاهرات موظّفي وزارة الإعلام والتلفزيون الرسمي وبعض فنّاني النظام بأن هناك جواً شعبياً مؤيداً لمبارك، وهو ما هيأ الأجواء لإرسال مجموعات البلطجية بأعداد كبيرة إلى مداخل «ميدان التحرير» وهم يركبون الجمال والخيول والبغال التي تجر العربات.
وكُشف أنه أول من أمس عُقدت اجتماعات واسعة النطاق بين مسؤولي الحزب الحاكم ورجال الأعمال التابعين للنظام مع قادة أمنيين للطلب من المتمولين توفير تكاليف استئجار البلطجية والخيول والجمال من «منطقة الهرم السياحية» التي عادة ما يُستعان بها لإحياء الحفلات في قصور أثرياء النظام. خطة انتقام مبارك من المتظاهرين سارت كما هو مكتوب لها باعتداءات البلطجية على المعتصمين، وخصوصاً أن عدد الذين كانوا في الميدان لم يكن كبيراً لأن ذروة التجمع تحصل عادةً في ساعات العصر، بينما اقتصر عدد الموجودين حين وصول البلطجية ظهراً على بضعة آلاف، فاستفردوا بهم. غير أنّ المتظاهرين تمكنوا من اعتقال عدداً من ممتطي الجمال والخيول والبلطجية وأظهروا أيضاً البطاقات الأمنية والحزبية التي يحملها هؤلاء.
هكذا انقسمت الساحة بين طرفين: أحدهما مدني أعزل، وآخر مدجَّج بكل الأسلحة البيضاء والحربية يفصل بينهما المتحف الوطني الذي ألقى عليه البلطجية قنابل حارقة بهدف إحراقه، إضافة إلى العربات والدبابات العسكرية التي تركها عناصرها أو أزاحوها من مكانها ليُفتَح المجال أمام دخول البلطجية عبر المداخل العديدة لميدان التحرير.
وعن تفاصيل الاعتداء، وصف شهود عيان كيف أنه مع انطلاق الاعتداء، وجد المسنون والأطفال أنفسهم محاصرين في قلب الميدان. حاول كثيرون الاحتماء بأي جدار وبالدروع الواقية البدائية المصنوعة من الورق وما تيسّر لرد حجارة المعتدين وقنابلهم، وحاولوا سد مداخل الأبنية. لكن البلطجية تمكنوا من الصعود إلى سطح أبنية مطلة على الميدان وأخذوا يلقون منه قطعاً ضخمة من الحجارة والقنابل على المتظاهرين.
وحاول الرجال المتظاهرون سدّ المداخل إلى الميدان، وكانت المواجهة الأعنف مع «البلطجية» تدور قرب المتحف المصري. وأكد الشهود أن قلّة فقط غادرت ميدان التحرير مع اقتحام آلاف البلطجية المسلحين الذين ضموا في صفوفهم نساءً شاركن في الاعتداء والتحرش ـــــ الكلامي والجسدي ـــــ بالمتظاهِرات.
ونُقل عن شهود مشاهدتهم لتجمعات «توظيف» البلطجية قرب ميدان رمسيس وعند كوبري (جسر) 6 أكتوبر، وقرب فندق الشيراتون. رجل يقف لاستئجار خدمات البلطجية، وناهزت أجرة كل مَن وافق على المشاركة في الاعتداء على المتظاهرين 50 جنيهاً (أقل من 10 دولارات).
ومساءً، تمكن المتظاهرون من إعادة إحكام سيطرتهم على جميع مداخل الميدان. وأُعلن انطلاق تظاهرات حاشدة لمعارضي النظام من مختلف مناطق القاهرة باتجاه ميدان التحرير، فما كان من التلفزيون المصري الرسمي إلا أن بثّ تهديداً عاجلاً مفاده دعوة المتظاهرين في ميدان التحرير إلى إخلائه فوراً، «لأن عناصر شغب تتجه إلى المكان بهدف إحراقه وإشعال فتنة». وقال التلفزيون في ندائه: «حرصاً على سلامة الجميع، وردنا أن عناصر تتجه إلى الميدان ومعهم كرات من النار، يريدون حرق الميدان والقيام بأعمال شغب وإشعال الفتنة»، مطالباً شركات الهواتف النقالة بإرسال هذا التنبيه عبر رسائل قصيرة على هواتفهم المحمولة. خطوة ترهيبية إضافية اتخذتها السلطات بإطفاء الأنوار عن ميدان التحرير للإيحاء بأن مجزرة ستُرتكب في الظلام، علّ المتظاهرين يخافون ويغادرونه.
وما كان يحصل في ميدان التحرير، كان يجري خارج القاهرة أيضاً، لكن التركيز الإعلامي كان محصوراً بالعاصمة. ونظم مؤيدو مبارك تظاهرات في بعض المحافظات واعتدوا على المعارضين للنظام، في الإسكندرية والفيوم والسويس مثلاً، حيث تعرض البلطجية للمنتفضين بالأسلحة البيضاء والأسلحة النارية وطاردوهم في شوارع المدينة «أمام أعين رجال الشرطة وقوات الجيش». وقال منسق «الجمعية الوطنية للتغيير» في السويس أحمد الكيلاني إن بلطجية جردوه من ملابسه وأوسعوه ضرباً ثم تركوه في الشارع بعد أن نهبوا سيارته.
وكان الجيش قد اتخذ مواقف ملتبسة، منذ صباح يوم أمس، عندما خاطب، في بيان، المواطنين بالقول: «وصلت رسالتكم وندعوكم إلى العودة لمنازلكم لأنه حان الوقت لتعود الحياة إلى طبيعتها»، مع إعلانه تقليص فترة منع التجول التي أصبحت من الساعة الخامسة مساءً إلى السابعة صباحاً. ولما بدأت وفود البلطجية تصل إلى قرب الميدان، حذّر الجيش، بلغة حادة، من أنه سيتعامل «بحزم» مع المؤيدين لمبارك إن اعتدوا على المتظاهرين. لكن كل ذلك ناقضه سلوك الجيش الذي غادرت فرقه التي كانت تحمي مداخل ميدان التحرير، ولم يستجب لدعوات المحتجين إلى التدخل بغية وقف العنف الحكومي. وتحول عناصر الجيش إلى رجال إطفاء قنابل البنزين التي ألقاها البلطجية بدل اعتقالهم وحماية المدنيين. وجلّ ما فعله كان إطلاق أعيرة نارية تحذيرية في الهواء، ما دفع بالمتظاهرين إلى الاعتقاد بأنه قرر التحرك. لكن المشاهد اللاحقة الآتية من الميدان أظهرت صوراً أكدت أن الجيش لم يكن لديه أوامر بالتدخل، بدليل أن البلطجية أحرقوا بعض الآليات التابعة له، وذلك على مرأى عناصر القوات المسلحة الذين قُتل أحدهم.
وكشف اللواء المتقاعد في استخبارات الجيش، محمود زاهر، عن مساعٍ لإقحام الجيش ضدّ معارضي مبارك من خلال افتعال مواجهة بين الطرفين عبر ارتداء البلطجية زي الجيش وإطلاق النار على المتظاهرين.
وقال أحد زعماء المعارضة، محمد البرادعي: «أطلب من الجيش التدخل لحماية المصريين؛ لأنه يجب ألا يقف على الحياد». ورأى أن ما أعلنه مبارك «عملية خداع» لأن «عملية الترقيع لن تنفع ولن تحول النظام من ديكتاتوري إلى ديموقراطي». كذلك جددت جماعة «الإخوان المسلمين» رفضها للحوار مع نظام مبارك، وحملته مسؤولية ما حدث، داعيةً الجيش إلى الانحياز لمطالب الشعب وحماية المتظاهرين.
وقالت الجماعة، في بيان، موقع باسم مرشدها محمد بديع إن «إصرار النظام على المضي قدماً في العناد والتصلب في رفض مطالب الجماهير يجعل الشعب بكل فئاته يرفض التفاوض مع من يريد الالتفاف على انتفاضته ليجهضها ولا يستجيب لمطالبها».
وأمام شبه غياب المعارضة «الرسمية»، سمّت بعض التيارات الشبابية المسؤولة عن اعتصام ميدان التحرير، وائل غنيم متحدثاً باسمهم. ووفقاً لإحدى صفحات التضامن معه على موقع الـ«فايس بوك»، فإن غنيم هو «ناشط سياسي مصري اختفى منذ يوم الخميس الماضي ولا معلومات عنه حتى الآن». ويعمل غنيم، الذي درس علوم الكومبيوتر في جامعة القاهرة، مدير تسويق في شركة «غوغل» وتردّدت أنباء عن أن غنيم هو مؤسس صفحة «كلنا خالد سعيد» التي دعت إلى ثورة الغضب يوم الثلاثاء الماضي.
ومن جهة الخطاب الرسمي، بدا أن النظام استقوى ببلطجيته، فجزم نائب الرئيس عمر سليمان بأن «الحوار مع القوى السياسية يتطلب وقف التظاهرات»، مناشداً
المواطنين «الاستجابة لمناشدة قواتنا المسلحة بالعودة إلى مساكنهم، والالتزام بتعليمات حظر التجول دعماً لجهود الدولة من أجل استعادة الهدوء والاستقرار».
وكان لافتاً موقف وزارة الخارجية المصرية التي رفضت، في بيان، «التدخلات الخارجية» في التطورات التي تشهدها البلاد المطالبة بتنحي الرئيس حسني مبارك، وقالت إن حديث بعض الأطراف الخارجية عن البدء بـ«مرحلة انتقالية فوراً» هو أمر «يتناقض مع الدستور».