المارد المصري ينهض اليوم. ونهوضه يعني أنّ معادلات المنطقة كلّها ستتغير. وعلى رأس هذه المعادلات طبيعة العلاقة مع السيّد الأميركي «السابق». طبعاً هذا نقاش استراتيجي بحت، وينبني الغوص فيه على ركائز محددة. ركائز لا تبدو صلبة كفاية، أو لا يراد لها أن تبدو كذلك. خذوا مثلاً الحالة التونسية الجديدة، إذ لم نعرف حتى الآن ما هو موقف «ائتلاف» الثورة من زيارة فيلتمان الأخيرة إلى بلدهم والتقائه كلاً من وزير الخارجية السابق كمال مرجان وقائد الجيش
، إذ على ضوء هذا الموقف يمكن أن تنجلي الكثير من المقولات التي عمّمها النموذج التونسي، ومنها مثلاً القول بجدلية العلاقة بين نهب ثروات البلد والاستتباع الاقتصادي للغرب الرأسمالي. المسألة هنا ليست سياسية بحتة، فلو لم تتهدّد مصالح أميركا الاقتصادية في تونس جرّاء اندلاع الثورة وطرد الديكتاتور، لما هرول جيفري فيلتمان إلى هناك بهذه السرعة. إذاً، ذهب الرجل إلى عاصمة الثورة ليضمن أنّ شروط الاستتباع كما وضعها الغرب لن تتغير تماماً، ولن تفضي إلى وصول حزب ثوري (كحزب العمال الشيوعي التونسي) يرعى هذا التغيير. وهذا أمر يجدر بمن «فوّضهم» الشعب التونسي قيادة ثورته أن يضعوه في الاعتبار.
نعود مجدداً إلى مفهوم الاستتباع الاقتصادي للغرب. والعودة هنا ضرورية لأنّ الاقتصاد الكولونيالي (ما سماه سمير أمين التبادل غير المتكافئ بين دول الشمال ودول الجنوب) هو ما يقود السياسة الاستعمارية لا العكس. وهذا يعني أنّ الاستتباع أعلاه لا ينفصل فيه ما هو سياسي عما هو اقتصادي. لنقل إنّها جدلية تستخدمها الرأسماليات الغربية لفرض أجندة اقتصادية معروفة، لكن عبر أذرع سياسية وأمنية. أما الأمثلة على ذلك، فهي كثيرة، ومنها تونس ومصر. واختيار هذين البلدين تحديداً مقصود بذاته لأنّ نسق ارتباطهما الذيلي بالغرب قد انتهى عملياً، وإن كانت هناك كثير من الفروق بين النسقين. فروق تضع حدوداً للارتباط التونسي بالغرب، خلافاً للحالة الساداتية ـــــ المباركية الآفلة في مصر. فمن ناحية، تونس بلد صغير وغير قابع في المنطقة التي تتمحور حولها استراتيجيات السيطرة الغربية، ومن ناحية أخرى، يقوم اقتصاده على نسق مافياوي يلائم، إلى حد ما، تصوّر الغرب لكيفية وضع اليد على اقتصاد الدول غير النفطية وتدمير عجلتها الإنتاجية. لذلك تحديداً نقول إنّه نموذج كولونيالي غير صالح للقياس، ومقارنته بالنموذج المصري ستظلمهما معاً وستحدّ من مقاربتهما على نحو جاد.
إذاً، دعونا نفصل بين الاثنين ونخرجهما من حالة النمذجة التي أريد لهما أن يُحشَرا فيها منذ اندلاع الثورة التونسية ولحاق الثورة المصرية بها. وأوّل ما يجب فعله هنا هو معاينة التجربة المصرية التابعة (تجربة السادات ومبارك) وتفحّص الأسباب التي أفضت إلى تفكيكها على أيدي ذاك الطيف المحتشد في ساحات مصر وشوارعها اليوم.
طبعاً، لا يختلف اثنان على أنّ الحالة المصرية هي حالة استثنائية. واستثنائيتها نابعة من أمرين: موقعها الجغرافي المحاذي لكيان وظيفي آخر تابع للغرب (إسرائيل طبعاً)، وتجربتها السابقة في إذلال هذا الغرب وإشعاره بأنّ التبعية له ليست قدراً. وهي تجربة مريرة بلا شك، ويصعب على أيّ رأسمالية إمبريالية ابتلاعها، فكيف الحال برأسماليات اعتادت أن تسحق الشعوب وتنهيها عن امتلاك ثرواتها؟ في هذا السياق تحديداً أتى الدور الذي أريد لمصر أن تؤدّيه في حقبة ما بعد «كامب ديفيد». وقد أدّته فعلاً وأُجبرت على تعميمه عربياً، وجارَتْها في ذلك كثير من الديكتاتوريات والسلالات الحاكمة. وهي ديكتاتوريات هشّة أصلاً ولا تحتمل بنيتها مزيداً من التجويف. وهذا هو السبب في التمايز الحاصل بين ديكتاتورية ممانعة وأخرى تابعة. تخيّلوا مثلاً لو أنّ باقي الديكتاتوريات العربية قد اتّبعت نهج المنوال المصري السابق: إذعان سياسي مذلّ للغرب، وتبعية اقتصادية مطلقة له (عبر مساعدات سنوية وصلت في الحالة المصرية إلى مليار ونصف مليار دولار) وتنسيق أمني قذر مع إسرائيل... إلخ، هل كان ممكناً أن يستميت أوباما وحاشيته في دفاعهم الوقح عن نظام الطاغية في مصر، لو لم يحقّق لهم هذا الأخير ما عجزت عنه (أو لم ترده لأسباب استراتيجية) ديكتاتوريات الممانعة؟ في الحالتين نحن أمام نظم تتغذّى على النهب المنظّم وتهشيم البنى الاجتماعية، لكن الحالة المصرية البائدة تمتاز بكونها الأكثر نفوراً والأكثر قابلية للتفكّك. وهذا ما حصل فعلاً عشية يوم الغضب في 25 الشهر الماضي. لقد بقيت هذه النظم السلطوية الموروثة من حقبة ما بعد ثورة تموز 1952 حيّة لأنّها عوّلت على شرعية واحدة هي شرعية «المواجهة مع إسرائيل» بعدما تآكلت شرعيتها الداخلية. وحده السادات استعاض عن هذه الشرعية بأخرى مناقضة ونافية لفعل المواجهة من أساسه. ظنّ الرجل حينها أنّ الالتحاق الكامل وغير المسبوق بأميركا سيوفّر عليه وعلى شعبه أثماناً باهظة، وسيمكّنه من إنفاذ سياسة حرق المراحل على أكمل وجه. لم تردعه انتفاضة الخبز في كانون الثاني 1977 عن نهجه هذا. وهي كانت مؤشراً إلى فداحة السياسات التي تكتفي باحتواء الغضب الشعبي (التراجع عن رفع الدعم عن الخبز)، من دون أن تجهد نفسها في صياغة علاجات جذرية لأسباب هذا الغضب.
والنتيجة المنطقية لذلك هي انفجار الغضب على النحو الذي شهدناه في الأيام الماضية. صحيح أنّ هذا الانفجار قد تأخّر قليلاً، إلّا أنّ حدوثه بهذه الكيفية المفاجئة اليوم يثبت أنّ فعل الصيرورة قد يباغتنا أحياناً. وهذه المباغتة تنفي تماماً الخرافات التي أشاعها فرانسيس فوكوياما قبل توبته عن «نهاية التاريخ» و«الإنسان الأخير». ليست المعادلة هنا رأسمالية في مواجهة شيوعية، أو رأسمالية في مواجهة أصولية دينية، فهذه ثنائيات مصطنعة أثبت التاريخ غير مرّة بطلانها وعجزها عن تقديم تفسير واضح لحركته. الثورة في تونس لم تكن هكذا، وكذلك الأمر في الحالة المصرية. نحن هنا أمام معادلة مختلفة تتدخّل في صياغتها كتل غير مؤدلجة وغير مسيّسة على النحو الذي اعتدناه. لنقل إنّه تسييس مفارق لذاك الذي أورثنا الهزائم المتكرّرة، ولا يزال مصرّاً على تركته البائسة وعلى معاندته للواقع ولحركة التاريخ.
اليوم تصنع الكتل الجديدة في مصر وتونس تاريخنا، أو تتدخّل في صناعته إلى جانب كتل أخرى راعية لحراكها على نحو رمزي. وحضور الرمز هنا لا يتعدّى كونه تمثلاً بجيل لا يريد هؤلاء منه إلا أن يكون موجوداً. هو وجود للحضور والشهادة فحسب. وقد حضر هؤلاء بالفعل. أحمد فؤاد نجم كان هناك، وعزّة بلبع أيضاً. لا أدري من حضر غيرهما من رموز ذاك الجيل، ولا تزال الفرصة سانحة أمام من لم يحضر. احضروا لتشهدوا فقط. إنّها لحظات تاريخية رغم كلّ الأثمان وكلّ الألم الذي صاحبها. يكفيكم فخراً في مصر الجديدة أنّكم ما عدتم تخافون جزمة الديكتاتور.
* كاتب سوري