مَن يتابع الاهتمام الإسرائيلي الاستثنائي بما يحصل في أرض النيل، يستنتج حتماً أن إسرائيل تتقدم على كل الآخرين في حرصها على نظام حسني مبارك، بمن فيهم العم سام نفسه، وكذلك الأشقاء الإقليميون الذين أعربوا عن تعاطفهم مع الفرعون المترنح وإدانتهم العبث بأمن مصر واستقرارها. سيجد المتابع نفسه أمام انعكاس أمينٍ ودقيقٍ للمقولة الإسرائيلية الشهيرة التي تلخص رؤية تل أبيب الاستراتيجية لمكانة المحروسة وأهميتها ودورها.مقولةٌ ترى أن اتفاق السلام مع مصر هو الحدث الأكثر أهمية في تاريخ إسرائيل منذ قيام الدولة. وبما أن الأمر كذلك، يصبح مفهوماً حجم القلق الإسرائيلي ـــــ الذي يلامس حدود الهستيريا ـــــ من إمكان انهيار الوضع المصري وانفتاح الأفق الإقليمي أمام «شرق أوسط جديد»، وفقاً لما تردده المواقف والتعليقات الصادرة عن الدولة العبرية.
تفكيك المقولة الإسرائيلية المذكورة إلى عناصر تمكّن القارئ من الإحاطة بدلالاتها أمرٌ يحتاج إلى مساحةٍ لا تتسع لها صفحات الصحافة. بالرغم من ذلك، ثمة ما يمكن إيجازه ضمن هذا الإطار. «قصة النجاح الكبير» التي تجسدت في اتفاقية كامب دافيد أول ما أعطت مفاعيلها في إحداث انقلاب جذري في البيئة الاستراتيجية لإسرائيل. الاتفاقية التي وقعت عام 1978 أخرجت أكبر أعداء الدولة العبرية وأخطرهم من دائرة التهديدات المحيقة بها. بين ليلة وضحاها تحولت إسرائيل من دولة تعيش تهديداً وجودياً إلى دولةٍ تودع عصر الحروب العربية معها، وذلك انطلاقاً من إدراكها للمعادلة الحاسمة، أن «لا حرب من دون مصر». الواقع الجديد لم يحيّد التهديد المصري فحسب، بل فتح الطريق لسلسلة من التغييرات البعيدة الأثر على غير صعيد.
سياسياً كسرت «كامب ديفيد» الحرم العربي بشأن الاعتراف بإسرائيل، وفي وقتٍ لاحق شقت الطريق أمام عملية سياسية أفضت إلى التحاق كل من منظمة التحرير الفلسطينية والأردن بالركب المصري. عملية كان من عوارضها الرئيسية إفراز تحولات في المناخ السياسي الإقليمي أخذت شكل القبول شبه الرسمي بإسرائيل واعتبار المشكلة معها نزاعاً حدودياً وليس صراعاً وجودياً. النسخة الأخيرة لهذا التطور كانت تبلور معسكر (اعتدال) عربي متحالفٍ موضوعياً مع إسرائيل ويتفق ضمنياً معها في تعريف التهديدات ومواجهتها. وتُعد محاصرة حكم «حماس» في غزة وتنسيق التآمر على فصائل المقاومة الفلسطينية التعبير العملي الأبرز لهذا التحالف.
أما على الصعيد العسكري، فقد كانت النتيجة الأهم لتحييد الجبهة المصرية إدخال تعديلات هيكلية جذرية إلى الجيش الإسرائيلي تمثلت بحلّ فرقٍ نظامية في قيادة المنطقة الجنوبية وتحويل أخرى إلى فرق احتياط، وخفض موازنة الدفاع وتحويل قيمة الخفض إلى أهداف اجتماعية واقتصادية، وتخفيف أعباء الجهوزية الحربية عن كاهل الجيش، وخفض سن الإعفاء من الخدمة الاحتياطية، ونقل مركز الثقل العسكري إلى الجبهة الشمالية. وقد برز التغيير الأبرز على هذا الصعيد في بناء الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية منذ عام 1982 (عام إنهاء الانسحاب من سيناء) على فرضية أن إسرائيل لن تضطر بعد اليوم إلى القتال بالتزامن على جبهتين. ويمكن الاستدلال على ماهية هذا التغيير من خلال الطريقة التي يتعامل بها الإسرائيليون مع المسؤولية التي تقع على عاتق قائد المنطقة الجنوبية، إذ يرون أنها «أكبر بقليل من مسؤولية قائد فرقة غزة». ومع تأمين ظهرها المصري، كان بإمكان إسرائيل على مدى 30 عاماً أن تهدد وتخطط وتبادر إلى خطوات عسكرية على جبهات أخرى من دون أن تخشى ردّ فعل مارد النيل. حصل هذا أربع مرات في لبنان (اجتياح عام 1982، عملية «الحساب والعقاب» 1993، عملية «عناقيد الغضب» 1996، وحرب تموز 2006) وثلاث مرات في فلسطين (الانتفاضة الأولى 1987، عدوان السور الواقي 2003، وعدوان الرصاص المصهور 2008).
اقتصادياً، وفّر السلام مع مصر، ولا يزال، مليارات الدولارات على الخزينة الإسرائيلية من خلال التزام القاهرة تزويد تل أبيب كميات كبيرة من الغاز الطبيعي بأسعار تفضيلية لا تتجاوز بكثير كلفة الإنتاج. وتعتمد إسرائيل في استهلاكها الغازي بنسبة 40% على الاستيراد من مصر، وكانت آخر صفقة وقعتها لشراء الغاز المصري في كانون الأول الماضي بقيمة 19 مليار دولار ستزودها القاهرة بموجبها ستة مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي على مدى عشرين عاماً. أي إن سعر متر الغاز المصري المكعب لتل أبيب يبلغ نحو 3.1 دولارات، فيما يبلغ سعره في البورصة العالمية نحو 4.5 دولارات. إلى ذلك، يمكن أن نضيف الخفض الهائل في أكلاف الشحن البحري الذي أتاحه فتح قناة السويس أمام الملاحة البحرية المتجهة إلى إسرائيل والصادرة عنها.
في ضوء كل ذلك، يمكن المرء أن يدرك المعنى الحقيقي لعبارة «الذخر الاستراتيجي» التي يستخدمها الساسة الإسرائيليون في توصيفهم للعلاقة مع النظام المصري. كذلك تتضح خلفية تأكيد المسؤولين الإسرائيليين أن مصر هي «الدولة الأهم بالنسبة إلى إسرائيل من مختلف النواحي والاعتبارات». بيد أن ثمة بعداً مستجداً للحدث المصري يعطي القلق الإسرائيلي تجاهه قيمة مضافة تقترب به من حافة الهلع. فعبور مصر جسر التغيير بالطريقة الثورية التي تحصل فيها الأمور من شأنه بحسب التقديرات الإسرائيلية أن يكون له أثر «مُعدٍ» على بقية دول المنطقة، وهو ما يُعبر عنه بمفعول «الدومينو». الكابوس المصري قد يجد في هذه الحالة ما يزاحمه على صدارة الاهتمامات الإسرائيلية في حال انتقال العدوى إلى الأردن الذي يمتلك أطول حدود برية مع إسرائيل (نحو 700 كلم). حدود كفيلة بجعل الحديث عن الخطر الذي تمثله منطقة رفح في قطاع غزة على صعيد تهريب السلاح إلى المقاومة الفلسطينية مجرد مزحة سمجة.
تعليق أخير لا بد منه على «الشرق الأوسط الجديد» الذي تتوقع تل أبيب تكوّنه في ظل ثورة النيل. تقتضي الدقة الإشارة إلى أن المقصود بـ«الجديد» في العبارة المستخدمة هو المعنى الحرفي الكامل للكلمة، وهو ليس من نوع «القديم الجديد» الذي يردده البعض. أي إن عودة مصر إلى تاريخها العروبي والنضالي لن يعيد البيئة الشرق أوسطية المحيطة بإسرائيل إلى العهد الناصري ما قبل عام 1967. آنذاك، كان لإسرائيل حلفاؤها الاستراتيجيون الوازنون إقليمياً: تركيا وإيران الشاه. في الواقع الناشئ، ستجد إسرائيل نفسها وحيدة، تحنّ إلى زمن مبارك.