لم ينحسر الذهول بعد عن وجوه الذين شاركوا وشهدوا موقعة إردوغان في قمة اسطنبول. خصوصاً، في قراءة تداعياتها على عالمنا، وعلى محيطنا، وبالأخص على لبنان المهان في كل محطة ومكان. بداية إرهاصات الكارثة الإردوغانية على عالمنا، ما قاله خليفة أتاتورك في خطابه مفتتحاً قمة التعاون الإسلامي. بطاووسيته المعهودة، وقف الرجل يبلغ نظراءه والمجتمع الدولي، أنه ابن شعب تعداده مليار و700 مليون نسمة على وجه الأرض. هم المسلمون في العالم. قبل أن يتابع تنظيره أنه في فهمه هذا لذاته، لا يميز ولا يتحدث عن سني وشيعي. بل عن المسلمين أينما كانوا. وبعدما ثبت بذلك شرعيته البليونية، تابع معلناً بشكل خافت ــــ ظاهر، حقه في مقعد دائم في مجلس الأمن، باسم الإسلام والمسلمين. وكي يرسخ حقه في تلك المطالبة، تابع تلميد نجم الدين أربكان تصعيده الأصولي، ليعلن أمام رؤساء دول، أنه يعتبر نفسه أولاً وقبل أي انتماء آخر، مسلماً!
خطاب لا يبدل شيئاً كثيراً في الواقع العملي. لكنه يقدم خدمات لا تثمّن للخطاب الصهيوني. فحين تصبح السياسة العالمية قائمة على الانتماء الديني لا غير. وحين تصير الشرعية الدولية موزعة حصصاً بحسب هويات الآلهة. وحين تزول مفاهيم الدولة الحديثة العصرية السيدة، ذات الأرض والشعب والمؤسسات، ليحل محلها كيان هيولي كوني باسم الغيب... عندها تكون اسرائيل في سابع سماواتها. لا فلسطين بعد اليوم. ولا صراع عربياً ــــ اسرائيلياً. ولا قدس ولا من يقدسون. مجرد إعادة تقسيم لكوكب الأرض بحسب تقسيمات السماء. عندها تحجز اسرائيل مكانها وموقعها في أذهان الغرب وتترسخ وتتشرعن وتتأبّد. خطاب كهذا تشتريه اسرائيل بأثمن الأثمان. تدفع مقابله "نصرة" و"داعش" و"قاعدة" وكل قواعد تخريب شرقنا ودولنا. تماماً كما يفترض أنها تدفع بلا حساب ثمن صورة قس يحرق مصحفاً، أو ثمن كاريكاتور مسيء منسي، أو فيلم تحريضي لم يشاهده مئات، ليصير شرارة حرب بين ملايين!
أكثر من ذلك، وتحت هذا الغطاء من الوحدة الإسلامية، لم يعمل إردوغان في قمة اسطنبول إلا على تكريس الانقسام المذهبي ــــ الدولتي بين الرياض وطهران. فباسم الإسلام الواحد، سهّل الرجل تعميق الحرب الإقليمية المفتوحة بين السعودية وإيران. مرّر إدانة الثانية، وتحليل دم حزب الله. وتمدّد صوب إذربيجان في صراعها مع أرمينيا، ليرمي باكو أكثر فأكثر في أحضان تل أبيب. وذهب صوب كوسوفو واليونان، ليؤجج الحساسيات الروسية والأوروبية، وليساهم في إعادة تلميع صورة اسرائيل هناك، في زمن ملامح تحطيم أسطورتها في وجدان عقدة الذنب الغربي المرضي القديم.
هكذا، بعد ضربته للنظام العالمي بطرحه الإسلاموي المقنّع، أكمل إردوغان بضربة للنظام الإقليمي الشرق أوسطي، بإبرامه الحرب الشاملة بين السعودية وإيران. صحيح أن الأزمة بين الطرفين لم تبدأ في اسطنبول ولم يكن أي عاقل ليتوقع أن تنتهي في قمتها. لكن الصحيح أيضاً أن تلك المحطة جاءت لتدمغ تلك الحرب الفتنوية بتواقيع عليا. أي بحضور سلمان وروحاني شخصياً. صارت الحرب مذيّلة بتواقيع المرجعيتين العليين. بعدها لا زيارات تنفع ولا مبادرات تجدي. صار التناقض بين ضفتي الخليج مطلقاً برعاية إردوغان. لم يعد يقدر على جسره ــــ نظرياً ــــ إلا واشنطن. فيما واشنطن مستفيدة من هذا الطلاق. حوله إردوغان سيفاً مزدوج النصل في يد سياستها ومصالحها. فالعداء السعودي لإيران، سيجعل من طهران أكثر استجابة للضغوط الأميركية من جهة. كما سيجعل من الخليج العربي برمته أكثر تبعية للحماية والمرجعية الأميركيتين من جهة أخرى. بعد قمة اسطنبول، بات في إمكان واشنطن أن تجلس متفرجة على دفع الرياض وطهران بعضهما البعض صوبها. من دون كلفة سنت واحد ولا جهد أميركي واحد.
لم يبق غير لبنان في خضم موقعة اسطنبول. ذهب أهله إليها وهم يمنّون النفس بمصالحة ولو جزئية مع الرياض، وعدم قطيعة مع طهران، وبخرم إبرة يمكن أن ينفذوا منه إلى إنجاز بعض استحقاقاتهم الداخلية. فكانت الحصيلة العكس تماماً، في كل أمل ووهم. على مدى يومين، ظل الوفد اللبناني مرابطاً حابساً أنفاسه منتظراً. فهو أرسل طلباً يرجو فيه لقاء الملك السعودي. وتلقى في المقابل طلباً من الوفد الإيراني للقاء قمة مع الرئيس روحاني. مضت ساعات القمة ثقيلة، بلا جواب سعودي على لقاء لبنان، ولا جواب لبناني على لقاء إيران. حتى كانت الصدمة بالإعلان عن أن سلمان سيغادر بعد إلقاء كلمته فوراً. جاءت الكلمة المرتقبة، فحلّت الصدمة التالية، حين تبين أنها لم تتعدّ دقائق معدودة. لا فسحة بعدها لدردشة، ولا لخلوة، ولا حتى لمجرد وقفة. أنهى سلمان كلمته وهمّ بالمغادرة. فما كان من لبنان إلا أن هرول حتى آخر الردهة أفقياً، ليحظى بمصافحة لثوان، بالملك المنسحب عامودياً...
هكذا انتهت قمة التعاون الإسلامي التركية، إلى إنجاز عالمي لا يثمّن للصهيونية، وخدمة خليجية كبرى لواشنطن، وإلى إدراك لبناني تدريجي أننا حشرنا أنفسنا في الوقت والمكان الضائعين، حتى الضياع المطلق. فهل من يدرك أو يستدرك؟!