«مش مصدّقة شو صاير»، بلكنتها الجنوبية، وبعينيها الزرقاوين الدامعتين، تسرد «أم حسين» ما حدث معها ليل الانفجار. الامرأة السبعينية، تقطن وحدها في منزلٍ متداع. تجول في بيتها المكوّن من غرفتين، المبعثرة أغراضه من شدّة الحدث، وتسرد: «كانت الساعة ستة إلّا، صوت كبير رجّ البيت وهرّ الإزاز وكل شي ع الحيط». تشير إلى صورة «المرحوم» زوجها، التي وقعت من قوة الإنفجار.
«ضهرت من البيت، شفت دخنة سودا، ركضت عم عيّط لأم خضر (جارتها) لأطمّن عنها». تزيح برجلها بقايا الزجاج المتبقي على شرفتها. تكنسه على قدر قوتها التي خارت مع الزمن. تصيح «أم حسين» على ابن جارتها، «جيب العلم». يهرول الطفل نحو العجوز، يعطيها العلم اللبناني، لـ«تشكّه على الدرابزين». يكتمل مشهد الرايات المختلفة في محيط مكان الإنفجارين.
صفراء، وخضراء، وسوداء. أعلام غطّت الطريق الضيّقة التي لا يتجاوز عرضها الأمتار العشرة. يخرق ألوان إنتماء أهل المنطقة بعض الأعلام اللبنانية. كما علّقت يافطات تؤكّد «العزم» على المضي في «الحرب ضد التكفير»، وأن القضية «الأساس هي فلسطين والقدس».

التفجير «جوّع»
بطوناً اعتادت أن «تشبع» من
هذا الشارع لأن «كل شي أرخص»


صرخات الشباب تعلو، كلما تقترب الكاميرا منهم. «هيهات منّا الذلّة»، «الموت لآل سعود»، الشعارات «العاشورائية» تعود مجدداً مع التفجير. أطفال الحي الشعبي يهرولون بالأعلام في ذلك الشارع الضيق، والأزقّة المحيطة به، فيما ينتشل آخرون بعضاً مما خلّفه الإنفجار، ويركض به ناحية منزله.
«المنطقة اسمها برج الشهادة»، تقول فاطمة مبارك، القاطنة مقابل فرن مكّي. «مش قادرين يواجهو رجال، عم يقتلو ولادنا»، تقول. كان منزل فاطمة مزدحماً بزائريه. «15 واحد كنا، 8 منهم أولاد»، تضيف بحرقة «فكرت قنينة الغاز انفجرت، ركضت لأجمع الأولاد، طلعت ع البرندا، طلع الإنفجار التاني... وانجرحت». كان جرحها طفيفاً. تستذكر من على شرفتها غازي بيضون، «اللي ما تهنّا بديكور المحل». فالتاجر المعروف، كان على همّةٍ لافتتاح فرع آخر في حارة حريك، كما قال أحد الجيران.
محمود، ابن الستة عشر عاماً، لا يزال خائفاً من صوت الإنفجار. لا يزال الصدى يطرق أذنيه، وكأنه يحدث الآن. «مسكت يد رفيقتي، وطلعنا ع الزاروبة، شي فظيع، ما تذكرني». يحاول الشاب نسيان المشاهد الدموية التي رآها. أيادٍ وأرجل متناثرة، ولحم ملتصق بالإسفلت، ورائحة دم عابقة مختلطةً بدخان أسود، وصوت كقذيفة «ب 7». «الضغط لا يزال في رأسي»، ما عم يطلع، يتركك دون استئذان، ويعود إلى منزله، هرباً من الأمس.
اليوم، لم يشابه الذي قبله. الشارع التجاري لأصحاب «الدخل المحدود» كان مغلقاً. لم يشترِ الفقراء حاجياتهم. لعلّ الذي حدث «جوّع» بطوناً اعتادت أن «تشبع» من هناك، لأن «كل شي أرخص». عبد الكريم بردى، صاحب أحد المحال المتواضعة، كان يتوقع إنفجاراً منذ عامين. «الله لطف مش سيارة». يتابع حديثه، فيما يحجب العرق، فوق زجاجة نظارته، عيونه. يشير إلى الأبنية الممتدة من نزلة مستشفى الرسول الأعظم حتى أول ساحة عين السكّة، «كل هول بيهرّوا، لو سيارة، المنطقة ع آخر عمرها». يشهق بردى، ويأخذ نفساً يعيده إلى حياة كان يمكن أن يخسرها، «ما لازم نتراخى، الحرب طويلة، مبارح هون، وبكرا مدري وين».
يقاطع حديث بردى جاره، صاحب أحد المحلات التجارية. «الماديات هينة، المهم الأرواح، وما منخاف، وقوايا بالسيّد والشباب».
لم يتبدل أي شيء في الشارع. ضُرب حول مكان الإنفجارين طوق أمني. يضبط عناصر «حزب الله» كل من يدخلٍ إلى هناك. يستأذنونك بالتفتيش، في وقتٍ، عادت الجديّة إلى عناصر «الدرك» على الحواجز.
منتصف الشارع، وتحديداً عند «الإسبرسو» قبل مسجد الإمام الحسين، حلقات دائرية من رجال ونسوة، يلبسون السواد «يمجّدون» فداء الشهيد عادل ترمس للمصلين «ليلة الجمعة».
«الفدائي عادل» بطل عين السكّة الجديد أبعد الإنتحاري عن المسجد قبل أن يهمّ بالدخول إليه. هو ليس «الفدائي» الأول، فالضاحية لم تنس، حتى الآن، شهيد الأمن العام اللبناني عبد الكريم حدرج، الذي أبعد الإنتحاري في محلّة الطيونة، في حزيران من العام الماضي.
بات عادل، أحد فصول حكاية الأمس. حكاية لم تبدأ بالإنفجارين، بل تمتد إلى أكثر من ثلاثين عاماً خلت. فالمنطقة أنجبت عشرات المقاومين والشهداء ضد الإحتلال الإسرائيلي. ومع دخول المقاومة في الحرب ضد الإرهاب في سوريا، قدّمت هذه المنطقة حتى الآن أكثر من 40 شهيداً، جلّهم في مقتبل العمر.
الطريق تزخر بصور هؤلاء. أضيفت إليهم صور الذين سقطوا بالأمس. لا تزال بقع الدم شاهدة على هول ما حدث. عن إجرام لم يرحم أحداً، وعن انتحاريين أرادوا القتل حتى الثمالة. إلا أن «إرادة الحياة» لدى الفقراء لم تنكسر.