«انصرف أيّها الأحمق». من حق المواطن الفرنسي، ايرفيه ايون، أن يقولها لرئيس جمهوريّته. هذا ما أعلنته «المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان» قبل نحو 3 سنوات، في حكم ضد الدولة الفرنسيّة، بعدما حاول نيكولا ساركوزي، في أيام رئاسته، أن ينتقم من ذلك المواطن الذي وقف في وجهه رافعاً لافتة بـ»أيها الأحمق». لم يكن أمام المشرّع الفرنسي، بعدها، إلا أن يُعدّل قانونه الجزائي، ملغياً جنحة «إهانة رئيس الدولة».هذا في فرنسا. أما لبنان، حيث القضاء المفتون بروح الشرائع الفرنسيّة، فمعروف بريادته في مجالات شتّى، من التنعّم برغد العيش وسط جبال الزبالة، والقمح المسرطن، والانترنت المؤسرل… وصولاً إلى صمود الدولة سنوات من دون مؤسسات دستوريّة! وهذه المرّة، جاء دور هذا القضاء ليدهش العالم، ويتجاوز في ابتكاراته الرائدة كل الانجازات في وطن الأرز: لقد ثبّتت بيروت، أم الشرائع، في الأيّام القليلة الماضية، اجتهاداً قانونياً، سيهزّ عرش ثيميس ربّة العدالة، ويجعلها تنتفض في قبرها الإغريقي القديم…
إنّها سابقة قانونيّة «صُنعَ في لبنان»، لا يعرف المرء إذا كان ينبغي له أن ينحني أمام عبقريّة مخترعها، أو يكتفي بالسجود لـ«روح القانون» في جمهوريّة الموز. في لبنان سنحاكم ابتداءً من اليوم، على أساس النيّات. من الآن فصاعداً، سيدخل «الريّس» إلى دماغنا، ليستشرف كالعراف الإغريقي تريزياس، ما الذي يمكن أن نكتب عنه… ومن ثَمّ يمنعنا استباقيّاً واحترازيّاً من أن نفكّر ونكتب. أليست هذه هي العدالة بعينها؟ أليست هذه هي الديمقراطيّة في أبهى تجلياتها؟ هل هناك مثال أكثر بلاغة على تقديس حريّة التعبير في بلد الأرز؟ أليست هذه هي العبقريّة اللبنانيّة متجسّدة؟
لم ينفِ المستدعي صحة
ما نُشِر، بل أكّده من دون أن يلجأ إلى محكمة المطبوعات

منذ الآن، قبل أن نكتب، هناك من يعرف أننا سنكتب! حتى الكاتب جورج أورويل لن تتفتّق مخيّلته عن هذا الاختراع. إنّه «الأخ الأكبر» على الطريقة اللبنانيّة. قبل أن نكتب سيدخل القاضي إلى رأسنا ويعطّل نيّة الكتابة… باسم القانون طبعاً! كلا ليس هناك من مبالغة في ما سبق. لقد استجاب «قضاء العجلة»، بكل طيبة خاطر، لطلب عبثي، وهو أن تُمنع جريدة «الأخبار» من تناول اسم شخص مستقبلاً! قال قضاء لصاحب الطلب: «لك ذلك!». وليد غيّاض، مسؤول الإعلام والبروتوكول في الصرح البطريركي في بكركي، استطاع الحصول على قرار من القضاء اللبناني «يُحصّنه» من التناول الإعلامي، إلى الأبد، وذلك تحت طائلة غرامة إكراهية قيمتها 50 مليون ليرة لبنانية عن كل مخالفة! أيها السادة الأفاضل من أهل السياسة والمال والأعمال في وطن العسل والبخور، أحبابنا زعماء المافيات وأعوانهم، وسائر الأفّاقين والدجّالين الذين يصنعون مجد الجمهوريّة: لماذا لا تحذون حذو السيّد (و. غ.) فتؤمّنون على مستقبلكم، براحة بال، بلا حسيب ولا رقيب، وتأمنون شرّ الصحافة المتطفّلة على خصوصيّاتكم والمتجنّية على سمعاتكم الناصعة؟
القرار الصادر عن القاضية زلفى الحسن، ضد الزميل غسان سعود وشركة «أخبار بيروت»، يقضي بـ«المنع من نشر أي خبر أو مقال، سواء في جريدة «الأخبار» أو على موقعها الإلكتروني، أو أيّ وسيلة أخرى من وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي كافة، يتضمن الإساءة للمستدعي (غيّاض) والتشهير به وبسمعته». جميل جدّاً! كيف ذلك يا ريّسة؟ وإلى أيّ أساس تستندين؟ وباسم أيّ منطق؟ من الآن فصاعداً، بات مواطن لبناني يملك حصانة مطلقة! صار بوسع المستدعي السعيد الحظ أن يفعل ما يشاء، والويل ثمّ الويل للصحافي الذي تسوّل له نفسه أن يحشر أنفه في شؤونه، أو حتّى يرمقه بنظرة ولو رقيقة! هذا ما ينبغي على الصحافيين أن يفهموه الآنَ! ثم ما هي الإساءة؟ وما هو التشهير به وبسمعته؟ في نص شكواه، تحدّث المستدعي عن تحقيق نشرته «الأخبار»، يتضمن معلومات عن منزل يبنيه قرب الصرح البطريركي. لم ينف صحة ما نُشِر، بل أكّده. ولم يلجأ إلى محكمة المطبوعات ليُثبت أن ما نُشِر بحقه يتضمّن خبراً كاذباً أو قدحاً وذماً. لجأ إلى القضاء المستعجل. ودليله؟ كلام منقول عن شخص قال له إنه سمع الزميل غسان سعود يقول إنه «يريد أن «يتسلى» بك». هل يحتمل هذا «الدليل القاطع» شيئاً آخر غير إصدار حكم على النيّات؟ منذ متى يقف القضاء على خاطر مواطن يعمل في موقع عام، ويأخذ بتأويله الزاعم أن مجرد نشر خبر عنه، دليل على نيّة مستقبليّة في الاساءة إليه؟
ما يزيد القرار القضائي غرابة أنه يتبنّى قول المستدعي، بأن ما نُشر عنه «يتناول أيضاً في الإساءة الصرح البطريركي نفسه». الصرح البطريركي نفسه؟ كيف يمكن الإساءة إلى صرح؟ إذا نُشر تحقيق عن موظف في هذا الصرح، وهو يعترف في متن ادّعائه بصحة ما نُشر، فكيف يكون ما نُشر إساءة إلى الصرح؟ هناك قضاة في لبنان، يبدو أنّهم لم يقرأوا المادة السابعة من الدستور: «كل اللبنانيين سواء لدى القانون، وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية». فقرة «عجيبة» أخرى وردت في القرار القضائي، تقول: «وتبعاً لكون المبدأ هو حريّة الإعلام، إنما مع مراعاة حريّة وحرمة الأشخاص وسمعتهم، وبالتالي حدود هذه الحريّة وعدم خروجها عن الغاية المرجوة وتوسّلها للإضرار بالأشخاص». ربما يريد منّا القضاء في قراره أن نصف الفاسد، أو المتورّط، أو المجرم عموماً، ببائع الورد والحمل الوديع، حفاظاً على أحاسيسه المرهفة؟ السؤال البديهي المطروح على القاضية زلفى الحسن: ما نفع الصحافة بعد الآن؟ لماذا لا نقفل كل الوسائل الاعلاميّة في لبنان، إلا تلك التي تروّج لأخبار الشخصيّات العامة؟
القضاء ليس كتلة واحدة،
وأحكام سابقة تحمي «القيمة» الحقيقية للبنان

قد تكون الفقرة الأغرب في القرار هي الآتية: «ولأن الإساءة لهذه الناحية قد تكون غير قابلة للتعويض عنها، في حال تبيّن في ما بعد عدم صحّة المعطيات التي يوصلها الإعلام إلى الجمهور». هل نحن أمام «مكارثيّة» لبنانية علنيّة؟ أمن الطبيعي أن يقرر القضاء أحكامه على النيّات؟ أليست هذه من اختصاصات الآلهة، مثلاً؟ المستدعي كان قد طلب غرامة 300 مليون ليرة عن كل مرة تُنشر فيها معلومات عنه! لم يقدّم أيّ إثبات على احتمال وقوع تعرّض غير مشروع ضده مستقبلاً. لكن القضية برمّتها تكشف عن نزعة قمعيّة، توتاليتارية، ترى في أيّ نقد لشخصية عامة بمثابة كارثة وطنية... والواقع أن الكارثة الحقيقية هي منع الصحافة من ممارسة واجباتها وحقوقها الأكثر بداهة، علماً بأن القرار صدر بحماية الشخصية «القيّمة»، من أي نقد، مساوياً بين حق الانتقاد والإساءة غير المشروعة.
نرفع الصوت الآن لكي لا يُكرّس هذا الاعتداء السافر على الصحافة، ولكي لا يُصبح «عُرفاً» أو مسألة «عاديّة». فخطورة القرار تكمن في فرض رقابة مسبقة، لينضمّ إلى الاستدعاءات الرامية إلى تكميم الأفواه والامتناع عن تبيان الانتهاكات والمخالفات، خصوصاً إذا كانت الانتقادات موجّهة إلى شخصية عامة. فليقتصر النقد بعد الآن على ابن الجيران.
بالتأكيد ليس القضاء في لبنان كتلة واحدة. وقد يكون من الواجب هنا، أكثر من أي زمن مضى، التذكير بمحطات قضائية مشرفة، في أحكام وقرارات سابقة، صدرت لتُنصف حرية الإعلام، ولتعلي من شأن هذه «القيمة» الأصيلة. ففي إحدى القضايا، سابقاً، حين تقدم النائب سامي الجميّل من قضاء العجلة بطلب لمنع «الأخبار» من تناول اسمه مستقبلاً، جاءه القرار من قاضي الأمور المستعجلة، جاد معلوف، بردّ طلبه، وذلك «في ضوء عدم ثبوت أي تعرّض محدد ووشيك على حقوق المستدعي، بشكل يستدعي التدخل المسبق لهذه المحكمة، يتعذر بالاستناد إلى أي أفعال سابقة تبرير إصدار منع شامل وغير محدد الموضوع أو المدة». بادر يومها وكيل الجميّل إلى استئناف قرار القاضي، إلا أن محكمة الاستئناف، برئاسة القاضية جانيت حنا، وعضوية المستشارين ندين جرمانوس وهالة نجا، ردّت استئنافه وصدّقت القرار الأول.
يُذكر أن المحكمة الأخيرة، بهيئتها نفسها، كانت قد فسخت قراراً لقاضي العجلة، بعد استئنافه من قبل «الأخبار» بوجه مروان وغدي وأسامة الرحباني، في «قضية السيدة فيروز»… وذلك في إطار «منع تناول أسمائهم مستقبلاً» أيضاً. ومن هذه القرارات التي يُؤمل أن تُكرّس كعرف لصيق بجوهر حرية الصحافة في لبنان، ما صدر قبل سنوات، في قضية مماثلة أيضاً، حين تصدّى القاضي نديم زوين بردّ استدعاء جهة «قيمة» أخرى، تريد ألا يُتناول اسمها مستقبلاً، معلقاً في قراره: «ليس في الملف ما يسمح بالتأكيد على أن الشركة ستعود وتنشر على الموقع الإلكتروني مقالات تتضمن تعدياً وتعرضاً واضحاً، وإن إجابة طلب المستدعي يُشكل حكماً على النوايا وقمعاً غير مبرر لحرية الإعلام والتعبير».
في الواقع، قرارات كهذه، كالتي ذُكرت آنفاً، تحمي «القيمة» الحقيقة للبنان، كما يتغنّى بها الجميع، خاصة «القيمين» من سياسييه و»نخبه في المحافل الدولية»... لا القرار الأخير الذي يُنذر بمرحلة «كم أفواه باسم القانون»…
في مطلق الأحوال، لن نسكت.
(الأخبار)