قبل 10 سنوات، ظهرت مؤسسة أديان كإطار يسعى إلى «تثمين» احترام التنوع الديني والعيش معاً وإدارة التعددية بين الأفراد والجماعات على الصعد الاجتماعية والسياسية والتربوية والروحية. يومها، قدّمت نفسها مؤسسة مستقلة ومنفتحة على مختلف الجماعات الدينية تؤمن بفرادة الأشخاص وخبراتهم والسلام المستدام والعدالة الاجتماعية والشراكة والتضامن الروحي. المؤسسة، التي انطلقت قبل حصولها في عام 2008 على علم وخبر ضمن قانون الجمعيات، بدأت عملها مع مجموعة من الأطفال المشردين و12 تلميذاً في إحدى مدارس بيروت، لتطاول نشاطاتها حتى آخر 2013 أكثر من 30 ألف مستفيد مباشر من برامجها في 25 دولة عربية وآسيوية وأوروبية، بحسب ما تقول منشوراتها.
البرامج الشبابية والدورات التدريبية التي تنظمها المؤسسة تصوّب بصورة خاصة على مفهوم المواطنة تحت سقف الميثاقية والتربية الدينية على القيم المشتركة بين المسيحية والإسلام وبناء قدرات الشباب على فهم التنوع الديني في السياق اللبناني الخاص على كونه جزءاً من الإرث الوطني المشترك.
لأديان نشاط سنوي، هو يوم وطني للتضامن الروحي، حيث يجول رجال الدين من كل الطوائف والمذاهب مع المؤسسة بين المناطق اللبنانية المختلفة للاحتفال معاً بالقيم الروحية المشتركة والتزامها. لكن هذه المؤسسة لم تكتفِ بنشر مفهومها عبر نشاطات لامنهجية، بل وضعت نصب أعينها التأثير في السياسات التربوية الرسمية لخدمة مشروعها، عبر توقيع عقد بقيمة 185 ألف دولار مع المركز التربوي للبحوث والإنماء. وهنا يطرح السؤال: كيف يمكن مؤسسة لديها أهداف خاصة أن تفرض نفسها شريكاً في تعديل مناهج وطنية وتسعى إلى الحصول على تمويل من الحكومة البريطانية لهذه المهمة؟ كيف يسمح لها بأن تتدخل في محتوى مواد حساسة مثل التربية المدنية والفلسفة وعلم الاجتماع؟
بموجب اتفاقية مع المركز التربوي للبحوث والإنماء، وقّعها وزير التربية السابق حسان دياب، وجددها الوزير الياس بو صعب، تعكف «أديان» على تطوير مادتي التربية والفلسفة في مرحلة أولى، منهجاً وكتباً، وقد حددت مدة 3 أشهر لإنجاز المنهجين تنتهي في نيسان المقبل لتبدأ بعدها عملية تأليف الكتب. وقد شُكلت لجنتان للمادتين باشرتا بعقد اجتماعات أسبوعية لمناقشة دمج مفهوم «المواطنة الحاضنة للتنوّع الثقافي والديني» في منهجي المادتين، كما تنص الاتفاقية.
الاتفاقية وقعت بعد وضع الشرعة الوطنيّة للتربية على العيش معاً في 15 آذار 2013، بمشاركة هيئات المجتمع المدني المعنيّة ومباركة المرجعيات الدينية. لم يكن معلناً حينها أن هذه الشرعة ستكون مادة لاعتمادها في تعديل المناهج التربوية. الشرعة تطرح السياسات والآليات التي تضمن تحقيق الأهداف، ومنها التزام قيم المواطنة الحاضنة للتنوع والعابرة للمجتمع المدرسي، القدرة على مقاربة التنوع الديني وفهم الخصوصيات المرتبطة بكل ديانة واحترامها، العمل من خلال الكفايات التربوية المكتسبة على ممارسة القيم والمواقف المنسجمة مع غنى التنوع والقدرة على المراجعة النقدية والتعامل بمسؤولية مع الصراعات المرتبطة بشعارات دينية وتحويلها إلى فرصة لتعزيز الوعي لمخاطر استغلال الدين في الصراعات السياسية ولنتائج التعصب والتمييز.
تعديل المناهج وفق مفهوم «أديان» اصطدم بمواقف أساتذة وافقوا في البداية على أن يكونوا أعضاءً في لجنة التطوير، ثم خرجوا منها لاعتبارات لها علاقة بـ «قيود نظرية مكبّلة للمشروع والتزام بأهداف معلنة للجهة الممولة وهي إدخال شرعة التربية على المواطنة الحاضنة للتنوّع الديني». أما في مادة التربية، فقد طرح البعض علامات استفهام بشأن اقتراح «أديان» أن يكون العنوان الجديد للمادة: التربية على المواطنة والعيش معاً بدلاً من التربية المدنية والتنشئة الوطنية.
سامية معكرون، المدربة في مادة الفلسفة ضمن مشروع التدريب المستمر في المركز التربوي، كانت أبرز المعترضات على هذه القيود. بالمبدأ، ترى معكرون أن «إدخال مفهوم المواطنة في المناهج مهم جداً، إنما يجب أن يكون ذلك من باب المواطنة في دولة، أما إدخاله من باب التنوع الديني، فهذا مثير للريبة، وكأنه حق يراد به باطل، فمسألة التنوع الديني أو الثقافي شيء مهم جداً أيضاً ويمكن إدخاله كعنصر مساعد على فهم الآخر وقبوله والتعامل معه، وسيدخل حكماً إذا ما تناولنا فكرة تطوير المناهج وفق المقاربة بالكفايات ضمن ما سمّي التربية الاندماجية، لكن لا يمكن أن يكون هو المدماك الأساسي للبناء عليه، فالمواطن لا يكون مواطناً إلا في ظلّ دولة للجميع، وانتماؤه الأولي لها وليس للأديان والطوائف المشكّلة للنسيج المجتمعي. الولاء يكون أولاً وآخراً للدولة الجامعة، وهكذا فقط نحمي الوحدة، وعندها تصبح المواطنة بالفعل حاضنة للتنوع الديني، وليس العكس». تقول: «لا خلاف مبدئي على العناوين العامة الواردة في الشرعة، فالمشكلة في المضامين والتفاصيل والإجراءات والخلفية، إذ إنها لم تلحظ وجود المرجعية الحقوقية والقانونية الجامعة للهوية الوطنية، والقول إنّ التربية الدينية ستؤدي حتماً إلى تعزيز العيش المشترك هو استنتاج متسرّع ويكاد يكون شاعرياً، ولا سيما أنّ التربية المنشودة لا تحصل من طريق الوعظ». وتشرح معكرون أنّه يمكن الوصول إلى القيم الإنسانية المشتركة دون التركيز جهارة على هذا البعد الإيماني، إنما تثمير التنوع الديني واعتباره قيمة مضافة تغني روحية تلك القيم الإنسانية العابرة لها.
لكن منسقة المشروع في "أديان" فانيسا بريدي، تشرح لـ «الأخبار» ماذا تقصد المؤسسة بتبنّي مفهوم المواطنة الحاضنة للتنوع الديني في المناهج، وتقول: إننا «نسعى إلى أن يجد التلامذة أنفسهم في مساحة حاضنة لخصوصيّاتهم الثقافيّة ولخصوصيّات الآخرين، فيتدرّبوا على اكتشافها وتقديرها كجزء من ثقافتهم الوطنيّة العامة، شرط أن لا تُبتلع هوياتهم الطائفيّة الشخصيّة». وتلفت بريدي إلى أن المؤسسة ميالة للانتقال من منطق «الانصهار» الذي يسعى إلى طمس الخصوصيات قسراً وتهميشها من الحياة العامة إلى منطق احترام التنوع واعتباره عامل إثراء للأفراد والجماعات. كذلك فهي تقترح الخروج من مفهوم الدولة ـ الأمة والمقاربة القومية للمواطنة التي ارتبطت بمشاريع إيديولوجيّة منغلقة أدّت إلى قهر المواطنين باسم المصلحة القوميّة العليا، أو تفكّك المجتمع وانهيار الترابط الاجتماعي والسياسي على أساس إثني أو ديني كردّ فعل على الإيديولوجيّة القوميّة. لا تخفي بريدي أن هذا المفهوم اصطدم باعتراضات، وعبّر كثيرون عن حذرهم من إسقاط المفهوم على واقع إمّا غير جاهز لتبنّيه أو ينظر إليه كأداة ثقافيّة غريبة عنه. وهنا تؤكد أن الخصوصية اللبنانية ستراعى في كل الأحوال. تشير إلى أن المطلوب «تعديل المناهج على أساس المقاربة بالكفايات وبناء تلميذ يتمتع بالتفكير النقدي وتكوين شخصية في سياق أربعة أبعاد: إنسان، مواطن، مؤمن وناشط». تستدرك: «مصطلح المؤمن لا يعبّر عن انتماء ديني خاص، بل عن موقف روحي شامل وعام يرتكز على قيمتي الانفتاح واحترام الاختلاف وعدم ازدراء المشاعر الدينية ورموزها لدى الآخرين».




مواطن مسالم غير هجومي

نفى منسق المشروع في المركز التربوي جوزيف يونس أن تكون الشراكة مع مؤسسة أديان والمساهمة المالية البريطانية مشروطة، فالعقد مع المؤسسة لا يختلف عن أي من العقود التي يبرمها المركز مع جمعيات أو هيئات محلية أو خارجية تحت خانة المشاريع المشتركة التي يسمح بها قانون إنشاء المركز في عام 1971، فيما الضوابط هي أنظمة المركز والدستور اللبناني والاتفاقيات الدولية والمقاربة التي قررنا اعتمادها في التغيير، أي المقاربة بالكفايات. وقال: «إذا كان لدى أحد شك بأن هناك إسقاطاً لمنهج خفي أو ما شابه، فهناك ثلاثة فيلترات: اللجنة العليا للمناهج، مجلس شورى الدولة ومجلس الوزراء».
وقال إن «أبحاثنا أكدت أولوية إعادة النظر في كتب الفلسفة والحضارات وعلم الاجتماع والتربية، لكون تعليم هذه المواد في المرحلة السابقة لم يكسب التلامذة مهارات المواطن المبادر غير المتفرج الذي يتحلى بالتفكير الناقد وقبول الآخر وليس تقبل الآخر. وإذا كنا نتغنى بـ18 طائفة، فإننا نريد أن لا تتحكم الطوائف بالمواطن، بل أن نبني مواطناً يؤمن بمبدأ التنوع الديني، ويتعرف إلى الآخر من خلال الاستفادة من المناسبات الروحية الرئيسة (شهر رمضان ، عيد الميلاد..) لدعوة التلامذة إلى فهم أصيل لهذه المناسبات والتعبير عن التضامن مع الآخرين واحترام مناسباتهم الدينية (إفطارات مشتركة، زينة الميلاد...)».
وأكد أننا نضع نصب أعيننا أن مبدأ السلام لا يشمل إسرائيل التي هي عدو، لأننا سنبني مواطناً مسالماً وليس مستسلماً، وشريكاً في وضع السياسات العامة للدولة. كيف ستعلمون التلامذة الدفاع عن حقوقهم في الدولة؟ يجيب: «يستطيع المواطن أن يطالب بحقوقه من دون أن يكون هجومياً وعدائياً، إذ يمكن أن نعلمه كيف يتظاهر ومتى يتظاهر وماذا يعني التظاهر؟».
لماذا استقال بعض الأساتذة من اللجنة؟ يقول: لأنهم غردوا خارج السرب ولم ينفذوا ما هو مطلوب منهم في العقد وهو التزام الشرعة». وشدد يونس على أن هناك نية لإعادة الاعتبار لمادة الفلسفة لتكون مادة نشطة مبنية على النقاش والعقلانية، وسنكون أم الصبي في هذا المجال.