المسرح، كما قال الكثير من المسرحيين أمثال بيراندلو وشكسبير وستانسلافسكي وغيرهم، هو مرآة للمجتمع؛ فهو يعكس بدقة وعمق الحالات والمواقف والأفكار والمشاعر الإنسانية والاجتماعية والسياسية والوجودية.
وعندما ينظر الإنسان بصدق الى نفسه، تُستعمل عبارة «أن ينظر الى المرآة»؛ أي أن ينظر بصدق الى داخله، أي أن يجرؤ على أن يواجه ما يراه في المرآة، أي أن لا يختبئ وراء إصبعه أو وراء طبقات المكياج أو وراء حواجز الأفكار المعلبة والموروثة. ولكن النظر الى أعماق النفس بصدق وشفافية، يتطلب البصر والبصيرة كي يتعدى الإنسان القشور ويتمكن من الرؤية بوضوح ويصل الى التجلي. وعندما يستطيع الإنسان فعل ذلك، يباشر الإصلاح، إصلاح النفس؛ وهو أهم إصلاح يقوم به ليرقى ويرتقي بنفسه ومجتمعه. المسرح إذن مرآة للنفس؛ وإذا كان المسرح في لبنان مرآة للمجتمع اللبناني، فماذا تعكس لنا هذه المرآة عن مجتمعنا وناسنا؟ ماذا تُخبرنا، وأي مجتمع وأي حقائق تُرينا؟ أسئلة تطرح نفسها بقوة في هذا اليوم. ماذا نرى على خشبات مسارحنا اليوم؟ وأي حقيقة تعكس هذه الخشبات؟ هل التفاهة أصبحت حقيقتنا؟ هل التصنّع والكذب أصبحا من سماتنا الأساسية؟ المسارح اللبنانية الغاصّة بالجمهور هي مسارح الشانسونييه التي تقدم الضحكة المبتذلة.
هل التصنّع والكذب أصبحا من سماتنا الأساسية؟
أما المسارح التي تقدم أعمالاً ذات قيم فنية وفكرية، فتكون سعيدة إذا امتلأت ربع صالاتها بالجمهور. علامَ يدل ذلك وماذا يعكس؟ كيف يرى نفسه الجمهور اللبناني؟ هل ابتذال الشانسونييه هو فعلاً حقيقته؟ وإذا كان الجواب سلبياً، فلماذا إذن لا يتواجد حيث المسرحيات التي تعكس الحقيقة الفعلية؟ هل لأنها قاسية؟ لماذا لا يريد الجمهور اللبناني أن يواجه نفسه بالمرآة؟ ولماذا لا يريد اللبناني أن يقف تلك الوقفة عارياً أمام مرآة نفسه؟ هل يُخجله ما سوف يرآه ويكشفه عن نفسه وما ستؤّله نفسه؟ الأجوبة عن هذه الأسئلة مخيفة، وهي لا تنفصل عن الأحداث السياسية والاجتماعية الحاصلة في البلد، لأن المسرح كما الإنسان ابن بيئته، فأي بيئة نعيش فيها؟ هل وصلنا الى قمة اليأس لنرضى بها ونرضخ لها؟ أم أننا فعلاً رواد هذه البيئة وهي من صنع أيدينا؟ وما السبيل الى تغييرها؟ وهل يستطيع الفن تغييرها وحده؟ نحن اخترنا المسرح وهو قُوْتنا وسلاحنا، له نعيش وبه ندافع. ولكن في ظِل السائد المستسلم للفساد وأهله، هل نمضي نحن المسرحيين ونساير التفاهة ونقتدي بالتاجر الذي يقول «حسب السوق سوق»، أم نُكمل المسيرة وحيدين ندفع الثمن، لحمنا الحي؟ إني أشعر بالحزن في يوم المسرح العالمي، كما أشعر به يوم المرأة العالمي ويوم الطفل وعيد الاستقلال. أين حرية المرأة وأين حقوق الطفل وأين الاستقلال وأين المسرح اللبناني الآن؟ أين مسرحنا الطليعي الذي كان يضاهي المسارح الغربية في ستينيات القرن الماضي؟ المسرح حاجة. إنه حاجة للروح، حاجة للفكر، حاجة للرقي، حاجة للتعبير. وهو حاجة ملحة اليوم في ظل هذا الجو من سيطرة التفاهة والعصبية وغياب الوعي. فالفن كما السلاح، والشعب كما الجنود. وإذا لم يتسلح الشعب بالفكر والعقل، فمعركته خاسرة، فإلى أين يذهب بعد انتصار السلاح، ولماذا يقاتِل ويعيش؟ وإذا لم يصبح المسرح والفن والثقافة حاجة للبنانيين، فهو باطل، وإذا لم يصبح العقل هو الحاكم، فالتبعية الطائفية والطبقية ستمحينا. المسرح الحقيقي كما الفن الحقيقي له القدرة على تغيير المكان والزمان، كما على تغيير الأفكار، ولكن للذي يجرؤ فقط؛ والفكر قادر أن يغيّر كل شيء. المسرح صدق خالص في التمثيل، المسرح رؤية عميقة في طرح ومقاربة المواضيع والأحداث والمواقف والأفكار في الكتابة والإخراج، المسرح إبداع فكري في التصاميم. المسرح هو الصدق والحب والإبداع والنفس والسلاح، ولكن من يشتري؟ ولكننا في لبنان محكومون بالأمل إذا لم نشأ الموت. ولهذا سوف نستمر في صراعنا الفكري والفني والثقافي... والمسرحي. وأريد اليوم أن أوجه تحية وشكر من القلب والعقل الى الرّواد الشجعان من المسرحيين اللبنانيين الذين ناضلوا بأعمالهم المسرحية أمثال زياد الرحباني، وشوشو، ونبيه أبو الحسن، وريمون جبارة، ويعقوب الشدراوي، وسعيد تقي الدين، ونضال الأشقر، وجلال خوري، وروجيه عساف، وعصام محفوظ وغيرهم ممن لم يستسلموا بل آمنوا بأفكارهم بالرغم من كل العقبات وقدموا أعمالهم بالرغم من كل الظروف. المسؤولية كبيرة على عاتقنا كمسرحيين أن نستمر بالنضال ولا نساوم كتجار الفن الذين لا ينّفكوا عن خفض مستوانا الفكري والثقافي ويبيعون سلعاً لا تمّت الى الفن بصلة. والمسؤولية كبيرة أيضاً على عاتق الجمهور اللبناني؛ فكما تكونون، يوّلى عليكم، وكما تطلبون تجدون. فانظروا جيداً الى المرآة لأن الذي تعكسه هذه المرآة اليوم مخيف جداً.
*أكاديمية ومخرجة مسرحية لبنانية