قد يكون وليد جنبلاط، ولأسباب متعددة، صاحب التشخيص السياسي الأكثر دقة، لمسرحية شبكات الإنترنت الأخيرة. إنها قصة مضاربات تجارية. والباقي قنابل دخانية وخلفيات احتكارية وأغراض تنفيعية. أما الرقم المقدر للعملية فنحو مئة مليون دولار أميركي سنوياً، ستذهب إلى جيوب أصحاب الخبطة الممسرحة تحت أغطية السيادة الواهية.
فمسألة الإمداد غير الرسمي للإنترنت قديمة في لبنان. عمرها من عمر اكتشاف وسيلة التواصل الرقمي هذه. الخرق الوحيد الذي قيل انه ذو بعد أمني جدي، كان شبكة الباروك الشهيرة. كما تردد ولم يتأكد. على قاعدة أن كل شيء ممكن الضياع في هذا البلد، من بابور "لطف الله ــ 2" إلى أطنان حبوب الكابتاغون. ففي قضية محطة الباروك، قيل إن الربط بواسطة الإنترنت غير الرسمي، لم يكن قائماً عبر لواقط معدّة للاستقبال من أقمار اصطناعية. بل بواسطة عامود استقبال ركب في الباروك تحديداً، كي يكشف مباشرة نقطة إمداد بالإنترنت، من مكان ما في جنوب لبنان. حساسية المصدر الجنوبي هي ما حتّم يومها تحركاً أمنياً للمعالجة. علماً أن الخواتيم القضائية للقضية المذكورة، أوحت بأن المسألة لم تكن دقيقة. بدليل أن أصحاب تلك المهنة عادوا إليها. كما أعيدت إليهم تجهيزاتهم وقنواتهم وسككهم وكل عدة الشغل. ما يشي بأن حقيقة محطة الباروك كانت أمراً من اثنين: إما أن السلطة قامت يومها أيضاً بعملية تضخيم وإثارة لتعمية ما. وإما أن المرتكبين كانوا أقوى منها. وإلا كيف لمجرم تعامل مع العدو أن ينتهي بما انتهت إليه؟!
بعد الباروك عادت مسارب الإنترنت غير الرسمي إلى كل البلد. وعادت تحت أعين دولة كاملة. بأمنييها وإدارييها وحكومييها وصولاً حتى آخر مستخدم إنترنت في أصغر حي أو قرية. التجهيزات مجموعة صحون ومعدات وكابلات وكومبيوترات، تدخل عبر المرافق الرسمية ببيانات مغايرة ومعدلة. من ثياب البالة إلى قطع الكسر. ففرّخت نحو نصف دزينة شركات موزعة للإنترنت غير الرسمي، أضيفت إلى نحو 120 شركة أخرى، تعيش منذ أعوام معاناتها الدائمة مع جلجلة الحصول على الإنترنت الرسمي غير المتوافر إلا للمحظوظين. وطيلة الأعوام الماضية، كان أصحاب نصف الدزينة تلك، يتعاملون مع كل البلد: مع البلديات لتمديد خطوطهم. ومع كل مبنى لتركيب لواقطهم. ومع مئات آلاف الزبائن، من مواطنين ورسميين، أفراداً ومؤسسات. وكان البلد ماشي والشغل ماشي.
كبر حجم السوق غير الرسمي. صارت أرقامه بعشرات الملايين شهرياً. فيما كانت خدمة الإنترنت الرسمي مستمرة في احتضارها وندرتها، نتيجة سياسات التضييق على منابعها. فصارت الأموال تدخل بوفرة إلى جيوب غير الرسميين. فيما الشح بدأ يضرب أرصدة المحظيين باللواقط الرسمية. علماً، كما يؤكد كل العارفين بالقضية، أن كلا الطرفين مدعوم. وكلاهما من أصحاب الحمايات السياسية والنفوذية المعروفة. وتماماً كما حصل في "خناقة" النفايات، وتماماً كما حصل في "نصبة" القاعدة البحرية وابتلاعها من قبل شركة خاصة على حساب الأملاك العامة والمال العام، هكذا وفي السياق نفسه، حصل تطور معروف قبل أسابيع. مفاده إحساس أحد محتكري الإنترنت الرسمي بفائض قوة ما، نتيجة انطباع بتبدل موازين سياسية في بيروت. فبين النقمة نتيجة "قلة الشغل"، وبين الصحوة المذهبية بفعل المناسبات والخطابات، ذهب المحتكر الرسمي لمفاوضة محتكر غير رسمي. غير أن المفاجأة كانت أن الأخير تعنت. لا بل حشر منافسه أمام خيار واحد: أنا أشتري منك شركتك بكامل تجهيزاتها وزبائنها، وتترك لي القطاع وتخرج من السوق... وإلا فشركتك آيلة إلى الإفلاس والإقفال... عندها، وعندها فقط، انفجرت المشكلة.
كل الباقي متممات جايمسبوندية لا غير، كما يؤكد الخبراء والمعنيون. فقصة إمكان دخول جهات خارجية على شبكة الإنترنت غير الرسمي مزحة. ذلك أن هذه القدرة حتماً موجودة. لكنها قائمة بشكل كامل على الإنترنت الرسمي كما غير الرسمي. إلا إذا كان ثمة من يريد إيهام الناس بأن اسرائيل تتجسس علينا بواسطة سلكين معلقين على لوح سنترال، ومنتهيين بسماعتين على أذنين في تل أبيب! فاسرائيل تتجسس بالتأكيد على كل اتصالاتنا، الرسمي منها وغير الرسمي. أما الكلام عن تجهيزات اسرائيلية، فمزحة أخرى. ذلك أن أهل هذا العلم كافة يدركون أن في كل جهاز خلوي نحمله رقاقة صنعت في اسرائيل. وأن كل منتجات "إنتل" اسرائيلية. وأن برنامج "فايبر" اسرائيلي أيضاً. وأن غالبية برامج مكافحة الفيروسات الإلكترونية اسرائيلية الصنع. يكفي تعديل حرف في برمجتها لتصير أحصنة طروادة في كل جهاز حاسوب عندنا، لمن يعرف أبسط قواعد الحساب. هذا فضلاً عن محطات شمال فلسطين المحتلة وقبرص، اللاقطة لكل موجة هوائية رسمية أو مقرصنة.
أطرف خلاصات مسرحية اقتسام جبنة الإنترنت الأخيرة، أن القائمين بها انتبهوا أخيراً إلى ضرورة محاصصة قالبهم العفن الجديد. ففرضوا قبل أيام على شركات توزيع الإنترنت، التي صارت كلها رسمية كما يفترض، والتي يناهز عددها 120 شركة، أن تتعامل مع شركات وسيطة محصورة ومحددة، لنقل سعاتها من المصدر إلى الزبون. وللمصادفة، ظهر فجأة أن هؤلاء الوسطاء خمسة. كل منهم من مذهب معين. وكل منهم مكلف بحماية كوتا من شركات التوزيع، المنتمية إلى مذهبه حصراً... باختصار، وللخلاصة، إنها معركة ديوك اللواقط، بعدما فرغوا من معركة ديوك المزابل. ولمن يشكك، تابعوا الملف حتى نهايته، واكتشفوا!