«كل الطرق تقود إلى بروكسل»؛ بهذه العبارة وصف تقرير نشر في إحدى الصحف الغربية قبل أشهر مسار التحقيقات في الاعتداءات التي ضربت العاصمة الفرنسية باريس في تشرين الثاني الماضي. قبل ذلك، لم تكن العاصمة البلجيكية بعيدة عن الشبهات بوجود عدد من الشبكات الإرهابية فيها، بل كان البعض يذهب إلى وصف بروكسل بأنها «ملتقى طرق الجهاديين» في القارة الأوروبية.عاشت العاصمة البلجيكية، التي تتجمع على مسافة قريبة من ساحتها المركزية مقارّ مؤسسات الاتحاد الأوروبي ومقر «حلف شمال الأطلسي»، «أجواء متوترة جداً» أمس، وفق عدد من سكانها الذين أضافوا، في أحاديث إلى «الأخبار»، أنّ «كل شيء تقريباً توقف فيها منذ الساعة التاسعة صباحاً، وخصوصاً حركة النقل، والمدارس»، عقب الهجمات الإرهابية التي تبناها تنظيم «داعش»، واستهدفت المطار وشبكة المترو في المدينة، مخلفة ما لا يقل عن 34 قتيلاً وأكثر من مئتي جريح. وفور وقوعها، بدأت الشرطة البلجيكية عملية ملاحقة شخص يشتبه بأنه أحد المنفذين، ونشرت السلطات صورة لثلاثة أشخاص يدفعون بعربات عليها حقائب ويشتبه بضلوعهم في الاعتداءات، فيما أعلن المدعي الفدرالي، فريديريك فان لو، أن اثنين من هؤلاء «ارتكبا على الأرجح اعتداءً انتحارياً».
«كان الأمر منتظراً، لكن لم يؤخذ بالجدية اللازمة من قبل السلطات»، وفق ناشط حقوقي تحدث إلى «الأخبار»، موضحاً أنّ «مستوى التأهب كان عند الدرجة الثالثة (أول من أمس)، ولم يرفع إلى الدرجة القصوى إلا عقب الاعتداءات». ووفق نتائج التحقيقات الأولية، فقد أشارت سهولة تنقل المهاجمين بين المطار و«المترو» إلى ضعف الجاهزية لدى السلطات الأمنية البلجيكية، والأوروبية من خلفها.
وشملت التعليقات حول عدم الجاهزية إشارة عدد من المتابعين إلى «احتمال تقصير الأجهزة الفرنسية» بمدّ بروكسل بكامل المعطيات المتوافرة لديها، وخصوصاً أنّ باريس باتت معنية مباشرة بعد إلقاء القبض على المشتبه فيه الأول في اعتداءات العاصمة الفرنسية الأخيرة، صلاح عبد السلام، في ضاحية مولينبيك في بلجيكا يوم الجمعة.
وبينما اعتبرت النيابة الفدرالية البلجيكية أنه «لا يزال من المبكر جداً» الربط بين اعتداءات بروكسل وهجمات باريس في تشرين الثاني، إلا أنها وقعت بعد أيام قليلة من اعتقال صلاح عبد السلام. وهو الأمر الذي اعتبر رداً مباشراً ومفاجئاً بحجمه من قبل تنظيم «داعش»، وخصوصاً من خلاياه النائمة في بروكسل، بفعل خشية هؤلاء من اقتراب اكتشافهم.
ولعلّ خصوصيات بلجيكا (الدولة المتواضعة أمام الدول التي تحيط بها)، ساهمت في ارتفاع مستوى هشاشة واقعها الأمني. وتشتمل تلك الخصوصيات، تحديداً، على ضعف الاستقرار السياسي فيها الذي يعزّزه نظام فدرالي فرضه الأمر الواقع، نظراً إلى انقسام البلاد على المستوى الثقافي بين ثلاث مناطق.
خصوصيات بلجيكا ساهمت
في ارتفاع مستوى هشاشة واقعها الأمني

وتشكّل ضواحي بروكسل التي تضمّ أعداداً كبيرة من مهاجرين يعانون إزاء ضعف سياسات الدمج مادة دسمة لوسم تلك المناطق بأنها «بؤر إرهابية». وفيما يشير الحديث عن ضاحية مولينبيك، حيث اعتقل عبد السلام، إلى أدلة كثيرة تصب في تلك الخانة، فإنّ التحقيقات بشأن اعتداءات باريس كانت قد أشارت إلى تنقل عدد من «المجاهدين» من بروكسل إلى العاصمة الفرنسية.
على صعيد آخر، دفعت الاعتداءات في بلجيكا دعوة قادة الدول الأوروبية إلى الوحدة ضد الإرهاب، معتبرين أنّ ما جرى يستهدف «أوروبا» وقيمها الديموقراطية.
وأعربت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، عن صدمتها، متعهدة بتقديم المساعدة «للعثور على منفذي الاعتداءات واعتقالهم ومعاقبتهم»، فيما قال الرئيس الفرنسي، فرنسوا هولاند، إن «أوروبا كلها مستهدفة من خلال الاعتداءات، أوروبا كلها تعرضت للضرب».
وفي هذا السياق، كان لافتاً اعتبار وزير الداخلية الألماني، توماس دي ميزيير، أنّ «الاعتداءات لا تستهدف فقط بلجيكا، ولكن أيضاً حرية حركتنا» والقيم «التي تشكل جزءاً من الاتحاد الأوروبي». ودعا الى شن «حرب قاسية وحازمة ضد الإرهاب»، مؤكداً أنه «لا يجوز التراجع».
وكردّة فعل أولى، شدّدت معظم دول الاتحاد الأوروبيّ، أمس، إجراءاتها الأمنيّة في المطارات وأنفاق المترو، وخصوصاً فرنسا. لكن على الرغم من اللهجة الحاسمة للتصريحات، إلا أنّ اعتداءات بروكسل تطرح تساؤلاتٍ حول مدى فعالية الإجراءات الأوروبية المشتركة المتخذة مسبقاً لمواجهة الهجمات الإرهابية.
وكان الاتحاد الأوروبي قد حاول اتخاذ سلسلة من الإجراءات المشتركة بعد اعتداءات باريس الأخيرة، لمكافحة الإرهاب والوقاية منه، حتى إنّ البرلمان الأوروبي صوّت على قانونين في الأشهر الأخيرة، يتناول أولهما مكافحة الإرهاب، فيما يلحظ «الوقاية من التطرف ومن تجنيد مواطني الاتحاد من قبل التنظيمات الإرهابية». وقبل ذلك بسنوات، كانت «معاهدة لشبونة» (2007)، قد وضعت إطاراً قانونياً يسمح بتعاونٍ أمني أوروبي موسّع «لمكافحة تمويل الإرهاب»، ومساعدة «الدول الأوروبية التي تتعرض لاعتداء إرهابيّ».
ويشرح أستاذ العلوم السياسية الفرنسي، فيليب ديليفيه، في تقرير حول «الاتحاد الأوروبي ومكافحة الإرهاب» أن مجمل تلك القرارات، بالإضافة إلى «الأجندة الأوروبية للأمن 2015-2020» تركز اهتمامها على أنّ «مكافحة الإرهاب والوقاية من التطرف هي في قلب الاستراتيجية الأوروبية الجديدة». ويضيف أن الاتحاد الأوروبي لحظ أيضاً ضرورة «التعاون مع دول ثالثة»، مثل الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من صدور قرارات مشتركة عدة، إلّا أنّ «أجهزة الاستخبارات (الأوروبية) تقف الآن أمام تركيبة قاتلة» وفق تقرير لصحيفة «ذي إيكونوميست». ويشرح التقرير أن المواجهة الأولى هي في أنّ «الآلاف من المواطنين الأوروبيين يتمّ تجنيدهم وتحويلهم إلى متطرفين عبر الإنترنت ويتجهون نحو داعش نتيجة عمليّة دعاية ناجحة». والأزمة الثانية تكمن في أنّ معظم الأوروبيين الذين انتموا إلى «داعش» وقاتلوا في سوريا والعراق، يعودون الآن «كمقاتلين ذوي خبرة»، ويعملون على تجنيد خلايا في الداخل الأوروبي.
عموماً، إنّ مجمل تلك المعطيات باتت تشير في الوقت الراهن إلى أنّ المسألة السياسية الأهم في أوروبا، باتت تتمثل في معرفة ماذا يمكن فعله حيال تراجع القدرات الجماعية على مواجهة التهديدات الأمنية.