على الغلاف | لم ألتق يوماً في السياسة مع غازي العريضي. لكنه لم يفقد يوماً جاذبيته عندي. مطلع وعينا السياسي، كان يقصفنا من «صوت الجبل» بتعليقه السياسي الحربي. تماماً كما كان ضحايا الاحتلال الاسرائيلي يومها، يتقاصفون بالنار، ويلحسون مبرد الخبث الصهيوني في الجبل، بألسن مشحوذة على خطابات من قرنين بائدين. في مرحلة تالية، كان العريضي مع فريقه ضمن محور 13 تشرين الأول 1990. وكنت من الذين أدركوا أن لبنان الذي كنا نعرف وننشد ونرجو، قد انتهى في ذلك النهار، تحت سحل الدبابات السورية الداخلة إلى بعبدا واليرزة، وسط ابتهاج قسم من اللبنانيين ومأساة قسم آخر.
سنة 1994، كان النائب والوزير الاشتراكي أول من اتهم سمير جعجع بتفجير كنيسة سيدة النجاة في 27 شباط من ذلك العام. وكنت أول من حفظ له ذاك «التجني»، لأذكّره به من موقع المتضامن معه في البريستول في خريف عام 2004، حين صار العريضي نفسه أولى ضحايا ما سميناه يومها «النظام الأمني اللبناني السوري المشترك». يومها كتبت له على صفحات «نهار» جبران، مستذكراً معه وله قصة الراهب اليسوعي مارتن نيموللر، في ظل اضطهاد النازية، لأقول له إن التضامن مع الحق لا يمكن إلا أن يكون مربحاً، وإن التخلي عن الموقف المبدئي في ظرف مُواتٍ لمكسب أو منفعة، لا يمكن إلا أن يجلب الكوارث في كل ظرف...
بعد جلاء الجيش السوري ووهم انتصار ملتحقي ربع الساعة الأخير من ثوار الأرز، استمر التباين في المواقف. فُرض على العريضي أن يظهر جزءاً من معسكر الذين استسلموا للدبابة السورية وهي في بيروت، ثم رفعوا راية مواجهتها المزعومة بعدما أصبحت في ريف دمشق. فبدا ــ من ضمن قيادته وفريقه وحلفائه ــ كمن رفض سيادة وطنه مرتين. مرة أولى حين رفض مواجهة الوصاية وهي على أرضه، ومرة ثانية حين رفض المصالحة المشرفة واللائقة مع أصحابها بعد زوالها ورحيلهم... في كل تلك الظروف، كان التباين مع غازي العريضي في السياسة كاملاً، وظلت جاذبيته في الحوار والسجال والاستماع إليه كاملة أيضاً. جاذبية غريبة مستغربة، لا مازوشية فيها طبعاً. بل شيء من عزوها إلى «أناقة» خصومته وبلاغة جداله وجمالية لغته، حتى حين تكون لغته سلاحاً أكثر مما هي كلمات وحروف. لم أتفق معه يوماً، ولم أفقد يوماً هذا الإحساس بشيء من الود الملتبس السري تجاهه.
غير أن ما يقفز اللحظة إلى الذهن، ليس ما سبق، ولا الخصومة معه، ولا لغز الاحترام. إنه هذا الرفض، هذه الثورة، هذا القرف من نمط تعاطي مجتمعنا السياسي والإعلامي مع مواقع القوة والنفوذ. نمط انقلابي تنصلي انتهازي تبرئي، برأبي (أي على طريقة موقف اليهود من يسوع وبرأبا) حيال كل من يكون في موقع سلطة ذات يوم، ويسقط فجأة في يوم آخر. هكذا حصل مع سمير جعجع مطلع التسعينيات. ومع نهاد المشنوق بعده. ومع جميل السيد بعد ذلك النهار من آخر آب 2005. وقبلهم قيل إن الأمر نفسه كان يحصل مع كميل شمعون زمن الشهابية ومع جميل لحود الذي أوصى ابنه بالابتعاد عن السياسة لأن الناس «هكذا». كأنه دوماً مشهد «الكوريدا»، ينتظرون كلهم في مدارج استدراج الضحية والجلاد، يشجعون ويحرضون ويستفزون، حتى يمتزج الدم بالرمل، فيشهروا كلهم نصالهم. لا هم عندهم من هو الثور ومن هو الماتادور. مستعدون في كل لحظة لقلب دوريهما ووجهيهما. المهم أن يتلذذوا بطعم الدم. هو المشهد الذي كتب عنه جبران أيضاً بعد شهادته ضد سمير جعجع، ولم يفهمه البعض، ولم يدركوا أنه لم يكن يتشفى، بل يصف واقعنا المتخلف الحاقد.
طبيعي في السياسة أن يمر أي رجل شأن عام في حالات صعود وهبوط. لكن ليس طبيعياً في زمن صعوده أن يتعامل مع بعض الناس والأعلام (همزة الألف مفتوحة، جمع علم) والأقلام كأنه إله، وأن يتعاملوا هم أنفسهم معه في زمن سقوطه وكأنه شيطان. إنه دليل انحطاط ثقافة مجتمع وانهيار قيم جماعة. إنه مؤشر التخلف والانتهازية والوصولية وسلوك الأقنان والعبيد الذاتيين، من دون سيد ولا إقطاعي. ذلك أن أسوأ أنواع البشر أولئك الذين يستقوون على صورة ضعيف حتى النحر، ويستضعفون أمام وهم قويٍ حتى العهر.
أتذكر الآن ما سمعته تواتراً عن حفل افتتاح دارة غازي العريضي في بيصور ذات يوم، برعاية رستم غزالة، وأقول للرجل الذاهب منذ الأمس في إجازته: لتلك الأسباب لك بعض تعاطفي، ولتلك الطبقة السياسية كاملة، كل قرفي.