على الغلاف | يستحق الوزير غازي العريضي، عن جدارة، جائزة «أوسكار» أفضل سياسي في الجمهورية. كاد الدمع يقفز من عينيه، أمس، وهو يوزع الشكر على كل من رافقه في مسيرته «الأشغالية». لم يبكِ، وهو يعلن استقالته من الحكومة المستقيلة أصلاً، لكنه أبدع في التباكي. كان المشهد درامياً إلى أبعد حد. فاق بمرّات ما فعله سلفه، المستقيل من الاستقالة أيضاً، زياد بارود، قبل نحو 3 سنوات. لم يكن ينقص، أمس، إلا أن يوزَّع «الكلينكس» على موظفي وزارة الأشغال لمسح دموع الفراق.
إنها لحظة فراق «المعلّم». همس أحد الحاضرين في أذن صاحبه: «ها هو يبيعنا سمك في البحر. لقد فعل ما فعل، لسنوات طوال، واليوم بعدما رفع عنه البيك (وليد جنبلاط) الغطاء يخرج علينا ليبيعنا استقالة».
ماذا تعني الناس عاطفة العريضي، الأب، تجاه ابنته لمى؟ بماذا يفيد الذين غرقوا في نفق طريق المطار، قبل أسبوعين، أن يُخرج الوزير من محفظته ورقة كتبتها له ابنته قبل سنوات؟ ما علاقة صيّادي الدالية الذين أوقف العريضي العمل في توسعة مينائهم، خلافاً لما قاله أمس، بأن يوجّه الشكر لصهره فؤاد وأحفاده وأهالي بيصور ومشايخها؟ تُرى هل كان يظن أن الجماهير الهائلة، بعد مؤتمره الحزين، ستنزل إلى الشارع لتطالب بعودته إلى الوزارة؟ بالتأكيد لا، العريضي أذكى من ذلك بكثير، فلمَ إذاً كل تلك العراضة التراجيدية؟ العريضي «ملسن» كما يقال في العامية، ويعرف جيداً كيف يستفيد من طلاقة لسانه، وموهوب في سرد الأفكار المتدفقة إلى حد «طوشة» المستمع وإرباكه. كل هذه الطاقات استخدمها العريضي أمس.
أسبوعان على فيضان نفق طريق المطار، وفيضان الفضائح المالية ـــ الحزبية ـــ الزبائنية لم يتوقف. يوم أمس دلف على اللبنانيين، من ثقب وزارة الأشغال، المزيد من الفضائح التي تحكي عن اليسير من أموالهم المنهوبة. تأخر العريضي نحو نصف ساعة عن موعد مؤتمره الصحافي، بسبب استماع النائب العام المالي القاضي على إبراهيم إليه، مدّة ساعة ونصف الساعة، على خلفية ما أدلى به الأسبوع الماضي ورد وزير المال محمد الصفدي عليه.
وصل العريضي إلى مكتبه في الوزارة. جلس، وعلى وجهه تلك الابتسامة التي تخفي خلفها شيئاً من الارتباك. عاد بالذاكرة إلى الوراء 5 سنوات، أيام حكومة فؤاد السنويرة، عندما «قال الصفدي في جلسة للحكومة، وهو كان وزيراً للأشغال آنذاك، إن هناك سرقة من الوزارة قدرها 2 مليار». أين هذا المبلغ؟ سأل العريضي، قبل أن يأسف لأن أحداً منذ ذلك التاريخ لم يجب. ويقفز العريضي إلى نقطة «فساد» ثانية. كل العيون على فم الوزير. ليس كل يوم مناسبة لأن يخرج مسؤول ويفضح أشياء كثيرة. عن فيضان نفق طريق المطار يجزم العريضي بـ«أن ليس لوزارة المال علاقة، صراحة أقولها، ولكن سألت عن دور شركة «ميز» (التابعة للميدل إيست) ولم ألق جواباً». رفع الوزير الكتاب المرسل إليه من المتعهد الذي رمت الشركة المذكورة المسؤولية عليه، والذي يقول إنه اكتفى بتنظيف مضخات منطقة الأوزاعي من دون طريق المطار. ثم يكشف العريضي عن «المفاجأة». يقول: «طُلب إليّ أن أوقّع لتغطية الشركة المذكورة، لكن أنا رفضت. الشركة تعمل منذ سنوات بشكل غير قانوني، بلا مناقصات، منذ السنيورة والحريري وميقاتي». من الذي طلب منك تلك التغطية يا معالي الوزير؟ العريضي لا يجيب، إذ حسم أمره بأن لا أسئلة في هذا المؤتمر الصحافي، لأن «كل شيء سيقال».
«أنا لست واجهة لأحد. أنا فقط أنتمي إلى الحزب الاشتراكي». قالها قبل أن يتحدّث عن مخالفة الصفدي على الأملاك البحرية. الأخير الذي «رخَّص لنفسه عندما كان وزيراً للأشغال إقامة مشروع بحري، ليتحول لاحقاً إلى رصيف من الباطون المسلح، خلافاً للرخصة... ولا أريد العودة إلى موضوع الزيتونة باي. طلبوا مني وقالوا خلينا نصبّ بالليل وإنت ما تفلّت لسانك علينا بالنهار، لكن رفضت». لماذا يتكلم العريضي اليوم عن كل تلك الفضائح، ولم يتكلم عنها في حينها؟ ولماذا لم يخطر القضاء بها؟ أليس سكوت المسؤول جريمة قائمة بذاتها؟ كل هذا برسم القضاء، وكل هذا، طبعاً، لا يعني أن الذين يتهمهم العريضي هم من جنس الملائكة. كلهم يفهم بعضهم لغة بعض. ومما يتحدث عنه العريضي مبلغ مليار و400 مليون دولار أميركي يضيع على خزينة الدولة، وذلك عبر بوابة الجمارك: «هناك جهات تعمل في الفساد بغطاء من كبار المسؤولين في الدولة». من هم هؤلاء؟ العريضي لا يجيب.
وينتقل وزير الأشغال إلى «فضيحة» سجن رومية. تحدّث عن اجتماع حصل الأسبوع الماضي في منزل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، ولكن «لن أبوح بما حصل». عند العريضي المسألة «كلها لدى وزارة الداخلية والضبّاط في قوى الأمن، ولا علاقة لوزارة الأشغال... قلت لهم في الاجتماع اكشفوا الحقيقة للناس». بات واضحاً أن متعهد الأشغال في سجن رومية محميّ من جهات عليا: «لم يبق أحد إلا واتصل بي لحماية المتعهد، وهددت بقول كل شيء، بعدما وصلني نص مخالف لما اتفقنا عليه في منزل ميقاتي».
وإلى ملف ميناء الدالية في الروشة، الذي مارس العريضي في الحديث عنه بعض «البهلوانيات» اللغوية، سأل «لماذا بلع كثيرون ألسنتهم، ومنهم الإعلام، بعدما كشفت أخيراً أسرار قضية الدالية؟». قد تمرّ هذه الكلمات مرور الكرام على غير المتابعين. لكن من ينزل اليوم إلى الدالية سيرى بعينيه أن أعمال وزارة العريضي متوقفة، لسبب غير مفهوم، رغم قوله قبل أسابيع إن العمل سيُباشر. كان هذا المقطع من حديث العريضي، بالنسبة إلى المتابعين، نموذجاً حياً على تسخيف الحقائق و«أكل» عقول الناس. صحيح أن الوزير المستقيل جلس أمس مع القاضي إبراهيم، لكن «لو كنت واثقاً أن القضاء الذي سلمته كل شيء سيعطي الحقيقة الكاملة للناس، لما عقدت هذا المؤتمر وتحدثت». طبعاً تصريح كهذا سيُحزن مجلس القضاء الأعلى كثيراً.
راح العريضي ينثر الشكر في كل الاتجاهات، لرئيس الجمهورية، للسنيورة والحريري وميقاتي، الذين عمل معهم. شكر أفراد عائلته، ولم ينس شكر «رئيسي وحبيبي الساحر» (قصد وليد جنبلاط من دون أن يذكره بالاسم). شكر رؤساء البلديات والمخاتير في كل المناطق، الذين تعاونوا معه على مدى سنوات. شكر ابنته التي قالت له «ضيعانك تكون بوزارة الزفت في هذا البلد الزفت». ثم... «أعلن اليوم توقفي عن العمل في حكومة تصريف الأعمال والدخول في إجازة سياسية».
انتهى المؤتمر، ولم يقل الوزير المستقيل مرتين كل شيء، ثم توارى عن الأنظار. سيحل في مكانه الوزير أحمد كرامي، وزير الأشغال بالوكالة. عاد العريضي «إلى صفوف الجماهير»، لكن لم ينزل إلى الشارع أي «دومري» لمطالبته بالعودة عن قراره!


يمكنكم متابعة محمد نزال عبر تويتر | @Nazzal_Mohammad




جنبلاط «لا يحمي فاسدين»

لم تفلح كل حملات الإطراء التي يكيلها الوزير غازي العريضي للنائب وليد جنبلاط. لم تعد تنفع «صديقي» و«رفيق دربي» و«معلّمي» لتبقى حصانة زعيم المختارة هي نفسها. آخر تعليقات جنبلاط العلنية قالها أمس، مؤكّداً أن «العريضي ينتمي إلى حزب، ولا يمكنه التصرف على كيفه». والتعليق العلني يخفي خلفه غضباً كبيراً يبديه جنبلاط أمام القاصي والداني بحقّ العريضي، إذ أكدت مصادر مطّلعة لـ«الأخبار» أن جنبلاط بات يردّد في الفترة الأخيرة حين يُذكر العريضي «أنا ما بحمي فاسدين». وتشير المصادر إلى أن العريضي على خلاف كبير مع «المملكة العربية السعودية ومع جنبلاط، على خلفية اختفاء جزء كبير من الأموال التي كان يتسلمها من السعودية خصيصاً لدعم المعارضة السورية».