تقشر حضور الرجل في المدينة. ذاب حضوره فيها. أكل الصخب رجل المدينة الصاخب. هذا قدر، المتلاحق الخجل. لا صباح بعد، لكريستيان غازي. لا زاوية يصفَر فيها لحنه الأخير. هناك، عند الزاوية، وقف. قبعة صوفية على الرأس، قبعة قديمة، على رأس أقدم من القبعة. رجل فرد، أضحى رجلاً في كورس المدينة الجمعي. تدحرج الرجل على موج رقيق من أعلى السماء إلى قبة السماء المقلوبة على باطن البحر. لم تشفع له طلقاته النارية على جدران المدينة المصنوعة من ريح. خطأ الرجل ببقائه على فجاجته، مع الانقلابات العاتية على أيدي تجار المقدسات.
إنه على وشك السقوط. كلما لمحته، عند زاوية الشارع القصي، يتعزز لدي الشعور هذا، بعدما التفت الحياة على عنقه كالأنشوطة. خطأ الرجل الآخر، خطأ من لم يحتمِ بحزب أو منظمة. هكذا أحرق عناصر أحد الأحزاب شرائط أفلامه الثلاثة والأربعين، كي يتدفأ المقاتلون على نارها. أحرقوا الأفلام وقلبه في اللحظة ذاتها. أحرقوا تاريخه الممتد على مدى جملة موسيقية طويلة. بدأ، كما يبدأ الآخرون. أول أفلام أبرز مخرجي الأفلام الوثائقية في العالم العربي، فيلم برقة الشعر في الأفلام الأولى. فيلم «راشانا» عن فن ميشال بصبوص. لا وراء ولا وراء الوراء. فيلم بسيط. نقطة، ثم كرت الأفلام.
خرج الرجل من ثراء الصمت إلى صخب الأفلام الوثائقية. مثاله مثالان. ايزنشتاين ودزيغا فيرتوف. لا عجب. قادته السينما والماركسية إلى ذلك. الماوي، أضحى ماركسياً، قادته أدلوجته إلى تجربته الثرية في السينما. كلوشار السينما، صنع أفلاماً لكلوشارية البلد. كلفته وزارة السياحة بتنفيذ 12 فيلماً. لم يهلهم أن يصور الفلاح وبقرته في حقل قوافي الطبيعة، ولا أن يصور الساهرين في كازينو لبنان. هالهم أن يضع صوت الفلاح على فضاء الكازينو، وأن يضع صوت الساهرين في فضاء الطبيعة، حيث يسعى الفلاح مع بقرته الطيبة، الولادة. بقيت الأفلام في علبها. لم يشاهدها أحد. شاهدها كريستيان غازي، بعين تصل إلى حيث تصل العين. هكذا، راح يشاكس الأبواب الموصدة، حين صوّر «الفدائيون» عام ١٩٦٧. يشي العام بمضمون الفيلم. فيلم جائع إلى الأرض، منعته الرقابة وأوصت بسجن مخرجه ١٥ يوماً، في حين وصفه ياسر عرفات «بالهزيمة بحد ذاتها». هذا رجل لا يساوم. لا يقدم النغمات في الجملة التقليدية. لم يشأ أن يرنم مع الكورس البلدي النوط المكتوبة على الدفاتر المسطرة. كل فيلم، رمال مرمية في هواء الوقت. كل فيلم، صف خجول متلاحق من اللهب المتدحرج، على تجار المقدسات. لم يرد إلا أن يستقبل الناس الإشارات وترجمتها على هدى طواف مقدس، لا بالتوابع الصناعية.
مذاك، بدأت مسيلات الرعب في أفلامه تتوضح أكثر وأكثر. لم يخشَ أن يواجه معضلات مناطق الظل، إذ اشتغل على «مئة وجه ليوم واحد»، بالشراكة مع «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». التقى الاثنان على أن لا حياة ممكنة بالستاتيكو الراهن. أنجزا الاتفاق بأحد أهم الأفلام الوثائقية، حيث بدت السينما أرجوحة القضية. ذلك أنه آمن بفلسطين القصيدة وبأن ما يفصل الأرض عن المستعمرة شتاء أيدي الصبية بالحجارة على المعابر وفي أزقة الأرض المحتلة. كلفه ذلك الكثير. كلفه أن يقطف زهرة الحرب في الحرب، بضحكة مفترة على آخر ابتساماته المعلقة على المدينة المعلقة على لحمها. هناك، سقط كصخرة من السماء، على ثقل أحلامه المقتولة، في الزوبعة البلدية غير الخفية. قتلت الثمانيني قوافل قاطفي المواسم الختامية. لم يلتحق بها، وهي تتصل بالأرض المائلة على غير الأمل ببلاد جديدة. رأى غازي الأشياء قبل أن تنكشف الأشياء. عندها، مات. المارجينال صار كلوشاراً، ثم شحاذاً يستعطي الأصدقاء والعابرين رغوة، لكي يحلق بها أشجار المدينة والجبال. لم يسعفه أحد من الواقفين على مصاطب الشر في زمن الإنماء والإعمار. راوح، من جراء ذلك، بين «الموت في لبنان» و«نعش الذاكرة». فيلمان من أفلامه المحشودة بكوارس الصمت. وجد الرجل في لجته الأبدية، وهو يرمح في اليوم الآيل إلى اللاشيء. تذكر خطواته الأولى. عدها، على وقع العد، فقد عينيه الرطبتين. لا يعيش السينمائي بغير عينين. هكذا وقع في المجاز الدراماتيكي لله. هكذا ارتقى العرش الأخير ومات. ابن الفرنسية، مات في بلد غريب، حين رفض أن يحتشد في مخيمات الفتات.