خمس سنوات وسوريا على درب الجلجلة... البلد الذي احتضن العروبة والمقاومة، واختزن الأصالة العربيّة في الثقافة والفكر والعقيدة واللغة والتاريخ... بلد الكواكبي وأبي خليل القبّاني، وإلياس مرقص وياسين حافظ وأنطون مقدسي وسعد الله ونّوس وممدوح عدوان وفاتح المدرّس وعلي الجندي ونزار قبّاني وغادة السمّان وأدونيس ورياض الترك وعمر أميرلاي وفواز الساجر وصبري مدلل ونذير نبعة، وصادق جلال العظم (بمعزل عن سقطاته الأخيرة)، والرفيق عبد العزيز الخيّر القابع في النسيان، وجورج طرابيشي الذي رحل بأسى في منفاه الباريسي وهو يتفرّج على انهيار بلده وأحلامه بالتقدّم (راجع ص ٢٢-٢٣)... والقائمة تطول لتشمل آلاف النساء والرجال (وأغلبهم كانوا نقديين، بشكل أو بآخر، للنظام الاستبدادي). كتب هؤلاء سرديّاتهم بحروف من ذهب في سجل الحداثة العربيّة، والنهضة التقدميّة والعلمانيّة والقوميّة... والسؤال اليوم: ماذا جنى بلدهم الجريح، الممزّق، النازف، بعد مرور خمس سنوات على اندلاع الشرارة الأولى لانتفاضة شعبيّة كان لها أن تحمل وعود الانفتاح والتغيير والاصلاح والعدالة والشرعيّة؟نعرف ماذا جنى «فاعلو الخير» وسماسرتهم من موردي البطانيات والحليب و«العون» الأممي على أنواعه. نعرف أهداف رسل الديمقراطيّة والعلمانيّة الذين لا يريدون لسوريا إلا كل خير: من مشيخات ممالك القهر الكرتونية ومعاقل الجاهليّة والتخلّف... مروراً بالفاشي المتأسلم إردوغان وائد تركة أتاتورك، عرّاب «الربيع السوري» الذي يبتزّ الغرب الاستعماري الجبان، ويضطهد الصحافيين ويقمع التظاهرات في يوم المرأة التي لا يتصوّرها خارج حوش الحريم، ويصادر الصحف المعارضة، ويخاف حتّى من تويتر وفايسبوك... وصولاً إلى «الصديق» الاسرائيلي وسائر «أصدقاء سوريا»، وعلى رأسهم فابيوس المخلوع. الأصدقاء الصدوقون أنفسهم، عاتبهم بمرارة قبل أيّام، ذاك مثقف سوري باريسي كنّا نكنّ له كل احترام. كتب في جريدة فرنسيّة ذرفت دموع التماسيح على سوريا ما معناه: لماذا فوّتّم فرصة ضرب سوريا وقت «الكيماوي»؟ أي أصدقاء أنتم؟ كنّا نعوّل على عونكم لإسقاط بشّار وبناء الديموقراطية الموعودة! طبعاً! الجماعة فاعلو خير! إذا سلّمنا بالضرورة الحيويّة لتحول ديمقراطي ما في المشرق العربي: من دمشق إلى الرياض، فما هي القوى البديلة التي ستمسك بالدفة؟ وأي ديمقراطيّة تأتي بها إلينا طائرات الإف 16؟ أي نهضة تلك التي يساعدنا عليها المهرج الجاهلي الأعور وبنو صهيون ورعاتهم الغيارى على الشعوب العربيّة وحقوقها المسلوبة، وتتولاها على الأرض لحسابهم جحافل المتأسلمين والتتار وقاطعو الرؤوس؟ يا حيف!
نعرف ماذا جنى «فاعلو الخير» على أنواعهم، وجيش المطبّلين والمرتزقة الذي يستفيد بمختلف الأشكال، وهو يُبزنس بـ«الربيع»، من مبدعين وإعلاميين ومثقفين وباحثين ورجال دولة طبعاً. لكن، سوريا، ما الذي جنته؟ مئات آلاف الضحايا، ملايين اللاجئين المشرّدين على دروب الذل القريبة والبعيدة. الطاقات الحيّة والنخب التي شفطها نهائيّاً الغرب العطوف، باسم «رسالته الإنسانيّة». الخراب العظيم الذي طاول المدن العريقة، والبنى التحتيّة، والتراث العمراني، والكنوز الحضاريّة، وذاكرة خصبة ضاربة عميقاً في التاريخ... والأخطر من كل ذلك، تلك الهوّة الفاغرة في قلب المشرق، مزّقت أحد أسخى الشعوب العربيّة وأرقاها وأنضجها وأكثرها انفتاحاً وتسامحاً وتنوّعاً وخصوبة. فتّتت المجتمع الأهلي، وأنبتت اللحى المدوّدة، وأغرقت الناس المقهورين في حرب أهليّة بشعة بلا قرار. أغرقتنا جميعاً في مستنقع التعصّب والتزمّت والحقد، مستنقع المذهبيّة والهمجيّة المختبئة خلف ستار صحوة دينيّة مزيّفة كاذبة مارقة. هكذا استشرى طاعون التكفير، ليتجاوز حدود سوريا فيعصف بالمنطقة العربيّة برمّتها... الحكم المستبد في سوريا شريك في هذه اللعبة القاتلة؟ ربّما؟ لكن لا مقارنة ممكنة بين دولة ومؤسساتها، وبين جحافل الهمج الملتحين الزاحفين من أربعة أقطار الأرض لقطع الرؤوس وسبي النساء وتدنيس الكنائس و... «تطبيق الشريعة»! هؤلاء لا بد أن هناك من جنّدهم وعبّأهم وموّلهم ودرّبهم وجهّزهم وشرّع لهم الأبواب! وهؤلاء ورعاتهم هم اليوم أعداء سوريا الفعليّون، وأعداء الشعوب العربيّة، وقتلة أحلامنا بربيع عربي حقيقي. هؤلاء هم الخطر العظيم على شعوبنا، وأوّل من سيسحلون المثقف الباريسي المستلب بـ«أصدقاء سوريا»! وإذا «نأينا بنفسنا» ولم نضع حدّاً لهم بكل ما أوتينا من وسائل، فسيقضون على آخر آمالنا بالتقدّم والحريّة والسيادة، في مجتمعات تعددية مستقرّة عادلة.
خمس سنوات سالت خلالها أنهار الدم والدمع، قتل الأخ أخاه، وتآلفنا مع مشاهد المجازر والخراب والأجساد المرميّة من شاهق... وسقطت المعايير، فإذا بالعدو الاسرائيلي صديقاً في لعبة المفاضلات! لكن، رغم كلّ ذلك، فإن سوريا بقيت. شيء عميق ومتجذّر في المكان والزمان والضمائر. واليوم تلك القوّة الخفيّة التي تشكّل روح الأمّة، تقول للإخوة المتحاربين إن الوقت حان للبحث عن أفق منطقي وعقلاني للخلاص. باسم الأرض، باسم الشعب، باسم العذابات المريرة، باسم المستقبل. اليوم يرنو العرب والعالم إلى جنيف، رغم المصاعب والتعقيدات. لا خلاص إلا بالتفاوض، رغم حالة التلوث العبثي التي تفرضها لعبة الأمم وتوازناتها. بين المفاوضين هناك أضغاث المتأسلمين «المعتدلين» الذين اختارهم الملك الأعور بتكليف من دراكولا البيت الأبيض، ليرسموا ملامح المستقبل والشرعيّة. لكن هناك أيضاً المعارضة العلمانيّة والديمقراطيّة التي ينبغي أن تنتزع دورها، فهي المؤتمنة على حقوق الشعب ومطالبه بالتغيير والعدالة، وهي تشبه سوريا المتمرّدة، وتشبه المستقبل. لن ينقذ سوريا إلا الأم الأصليّة: تلك التي تريد ابنها كاملاً، ولا ترتضي أن تتقاسمه مع الأم المزيّفة، فلا تحصل إلا على بعضٍ من جسده المشلّع!