إنه «جنون اليأس» فعلاً، كما سمّاه ميشال عون. وهو الجنون نفسه لدى الفريق نفسه، من السعودية إلى العراق وصولاً إلى سوريا انتهاء بلبنان. ما الذي يبرره؟ يبرّره أنه جنون من يبني الأوهام باكراً، ويأس من يطرح الأطماع الكبرى أهدافاً. قبل أن يقرأ الواقع ويدركه ويفهمه ويعتبر من دروسه وحقائقه.

هو جنون اليأس الذي جعلهم قبل أيام يعترفون خطياً، أبيض على أسود ــــ ولو بعد نحو ثلاثة أعوام ــــ بأنه أواخر سنة 2010، لا كانت «قمصان سود» في بيروت ولا كان انقلاب «وليفقهي» في لبنان. بل أن كل القصة تكمن في أن جفري فيلتمان، العزيز جيف نفسه، قد ذهب إلى بغداد يومها، واتفق مع طهران على انسحاب هادئ لجيش بلاده المهزوم في آخر الحروب البوشية. وأنه في بغداد عقد الاتفاق بين الطرفين الأميركي والإيراني، على خروج آمن للأول من المستنقع العراقي، في مقابل أمرين للثاني: لا علاوي في بغداد، ولا حريري في بيروت. وهو جنون اليأس نفسه الذي جعلهم منذ تلك اللحظة يدفنون معزوفة الـ «س/س»، ويطلقون «ربيع دمشق» بالأصوات عينها التي كانت أول من قمع الربيع نفسه سنة 2000.
وهو جنون يأس من يستعيد اليوم اللحظات ذاتها، حين يرى فيلتمان نفسه، ومن موقعه الأممي بدل الأميركي، يجلس في طهران ذاتها، لا في بغداد القريبة، يحاور خامنئي مباشرة، لا عبر العراقي مداورة. إنه جنون من يرتعب من الصفقة التالية للعزيز جيف، ولو بين «شيطان أكبر» سابق، و«محور شر» أسبق. جنون لم تخفّفه الرواية المتناقلة في بيروت، عن أن قطباً سياسياً لبنانياً راسل فيلتمان الطهراني، بالطريقة الأحب إلى قلب الأخير وأصابعه، فكتب إليه على هاتفه الخلوي: «رأيتك ونور القداسة يشع من وجهك وأنت قبالة سماحة السيد القائد الأعلى مرشد الثورة»... فجاءه الرد الفيلتماني الأميركي الإيراني الأممي: «لقد اكتشفنا يا صديقي أنه بعد ثلاثين عاماً من العداء بيننا وبينهم، لم تكن المسألة أكثر من تباين في وجهات النظر»!!
وهو جنون من راهن طيلة الأعوام الثلاثة الماضية على تعداد أيام سقوط الأسد، ليفيق اليوم على تعداد انتصاراته وبدء العد العكسي لانهيارات الآخرين. من دون أن يعني ذلك ابتهاجاً لمنطق الخبز والكرامة والحرية، ولا تعامياً عن عشرات آلاف الضحايا البريئة. غير أنه منطق المصالح الدولية، المنطق الذي راهنوا عليه، قبل أن يراهن عليه خصومهم. هو جنون من فهم عمق الاتفاق الأميركي ــــ الروسي، ومعنى تلك الحركة السمفونية المزدوجة بينهما. مثل راقصي بولشوي على مسرح برودواي، واحد يدير وجهه صوب الباسيفيك، وآخر يدير وجهه صوب المتوسط، والاستدارتان تتكاملان في جمالية مشهد النفط والأمن والإرهاب والمصالح وميني يالطا الجديدة. وهو يأس من سمع مسؤولاً غربياً يقول لسائليه، إنه بعد التجربة والتدقيق والتأكيد، اكتشف أن بشار الأسد أفضل «فرّامة» للإرهاب الأصولي في العالم. الإرهاب الأصولي نفسه الذي بات، قبل الأوزون وكويتو والطاقة النظيفة والتنمية المستدامة وكل زجليات ابن غور... الإرهاب الذي باتت الحرب عليه أول جامع مشترك بين دول الأرض. هو الإرهاب الذي جعل عاصمة أوروبا العريقة وقاطرتها الفعلية الوحيدة، برلين، تعلن أن 220 جهادياً من حملة جنسيتها باتوا قنابل بشرية موقوتة في سوريا، فكيف ستفكر في عودتهم إليها أو تسمح بها؟ وهو الإرهاب الذي يجعل بلداً إسلامياً حديثاً مثل كوسوفو، يعلن أن حكومته الإسلامية بالذات، لم تعد تحتمل زحف الجهاديين الإرهابيين منها صوب سوريا أيضاً. فماذا سيفعل الإسلام المعتدل في كل العالم؟
وهو جنون من سمع أن سفن التسليح السورية باتت تصل إلى المرافئ السورية بعلم وخبر أميركيين، إن لم يكن بطلب وحماية. وأن موجات التسليح الأخيرة بدأت تفعل فعلها على الأرض وفي الميدان. وهو يأس من فتح الخارطة السورية قبل عام ونيف لأحد السياسيين اللبنانيين، وراح يشير عليها إلى محاور اجتياحاته المقبلة وغزوه المظفر الآتي. وهو اليوم يفتح لا شك الخارطة نفسها، ويقرأ معنى المعارك الثلاث المفتوحة: أولاً في حلب، معركة تعني أن تركيا باتت خارج الحرب. وثانياً في لبنان. معركة تعني أن الغرب قد يعود إلى زمن الكارثة عام 1976 أو المأساة سنة 1990. وثالثاً معركة درعا، التي تعني أن الأردن لم يعد ممراً سعودياً في اتجاه دمشق، وقد يتحول ممراً معاكساً، يتكامل مع أفكاك الكماشة من البحرين إلى اليمن...
جنون ويأس قد يكونان مفهومين بالقراءة والتحليل، لكن يستحيل أن يكونا مبررين أو مقبولين بالمنطق أو الحق. فكيف إذا اعتمدا وسيلة وحيدة، هي الإرهاب. وسيلة لن تجدي ولن تفضي ولن تؤدي إلى أي نتيجة، إلا المزيد من الخسائر العبثية المجانية من جهة الجزار، والمدنية البريئة من جهة الضحية. حتى بات الخيار الفعلي لهذا الفريق بين أمرين: إما أن ينتهي مهزوماً، وإما أن ينتهي مهزوماً ومجرماً وجباناً معاً.