وضع تفجيرا بئر حسن لبنان مجدداً داخل اللعبة الأمنية الخطرة. أدخلا طرفاً ثالثاً فيها، وفي صلب موازين القوى الداخلية، لن يكون في وسع أي فريق رسمي أو حزبي جبهه. نقض تنظيم «القاعدة»، بعدما أعلن مسؤوليته عن استهداف السفارة الإيرانية، كل التكهنات والشائعات المتناقضة التي تناولت وجوده في لبنان في السنوات الأخيرة، وأبرز مقدرته على التحرك. حتى البارحة، كان البعض يتحدث عن محبذين للتنظيم ومؤيدين له في قرى الأطراف اللبنانية والجرود شمالاً وبقاعاً، وينفي نشوء خلايا له نائمة أو ناشطة، وقرن هذا البعض تعاطف لبنانيين مع «القاعدة» باعتقاد عقائدي أكثر منه انتماء إلى نشاطاته المدمرة وتوسله العنف والقتل.
في تفجيري بئر حسن وضعت «القاعدة» حداً نهائياً للتكهنات والشائعات تلك، وأدرجت نفسها من الآن فصاعداً على رأس صانعي الاضطراب والفوضى في لبنان.
ومع أن تفجيري بئر العبد والرويس، ثم تفجيري طرابلس، وجهت للفور أصابع الاتهام بالتناوب إلى فريقي الانقسام الداخلي وموقفيهما من الحرب السورية، سواء وقعت التفجيرات تلك في أيد لبنانية أو غير لبنانية، إلا أن تفجيري بئر حسن يفتحان باب الاجتهاد على تفسير دوافعهما بعدما أفصح الفاعل عن هويته:
1 ـــ وقع التفجيران في الضاحية الجنوبية، لكن خارج البقعة الأمنية المحكمة الإغلاق لحزب الله، ما أتاح سهولة تنظيم الهجوم المزدوج وإدارته، رغم أن الهدف المقصود محاط بمراكز حزبية رئيسية ومهمة لحركة أمل وبيوت وزراء وسياسيين وحزبيين مجاورة للسفارة لا تحظى بتدابير أمنية استثنائية. بدت منطقة بئر حسن ــــ ولم يسبق أن شهدت حوادث مماثلة أو عُدت على صورة الأحياء الداخلية للضاحية ــــ المكان المثالي بغية توجيه رسالة أمنية موجعة ملازمة للرسالة السياسية، هي أن كل بقعة يمتد إليها نفوذ الحزب أصبحت واقعة تحت تهديد «القاعدة»، من غير أن تقتصر على الداخل كبئر العبد أو الرويس، ومن غير أن يكون الحزب بالضرورة معنياً وحده بالرسالة السياسية.
في الساعات الأولى من التفجيرين، ورغم وقوعهما عند أبواب السفارة الإيرانية، تركز الاستنتاج السياسي على حزب الله على أنه هو المستهدف بسبب استمرار تورطه في الحرب السورية. فهم من الهجوم الأمني أنه موقف مكمل لتفجيري بئر العبد والرويس في مكان سهل الوصول إليه. في ما بعد تأكد أن إيران ـــ وقد تكون وحدها أو أكثر من سواها ـــ هي المعني الرئيسي لأكثر من سبب.
2 ـــ استهدف التفجيران السفارة، في وقت بدت فيه أنها خارج أي شبهة وغير مهددة في أي وقت مضى، على أهمية الدور الذي تضطلع به في الحرب السورية، وفي موازين القوى الداخلية من خلال «حزب الله». دور غير مستجد على الأقل في الداخل اللبناني. بيد أن التفجيرين حملا دلالة غير خافية، هي ارتباطهما بنزاع إقليمي حاد لا يقتصر على الموقف من دعم نظام الرئيس بشار الأسد والحرب السورية.
ليست المرة الأولى التي تخوض فيها الجمهورية الإسلامية نزاعاً إقليمياً دامياً في لبنان، وكان باستمرار مع مَن عدّته «الشيطان الأكبر»، أي الولايات المتحدة والغرب. لكن الخصم صار مختلفاً هذه المرة، سواء كان السعودية أو تنظيم «القاعدة» تبعاً للاتهامات التي سيقت إليهما في الساعات الأخيرة.
وقع تفجيرا بئر حسن بالطريقة نفسها التي خبر لبنان مطلع عقد الثمانينات مجموعة هجمات إرهابية مطابقة، باستخدام سيارات ملغومة طاولت سفارات دول مهمة، كالسفارة الفرنسية في كليمنصو، والسفارة العراقية في الجناح، والسفارة الأميركية في عين المريسة، وجنود المارينز والمظليين الفرنسيين في القوة المتعددة الجنسية في بيروت. وُجهت أصابع الاتهام حينذاك إلى سوريا بتفجيري السفارتين الفرنسية (مطلع عهد الرئيس فرنسوا ميتران) والعراقية (لأسباب مرتبطة بالعداء العقائدي بين نظامي البلدين)، وإلى إيران في تفجيري عين المريسة وجنود القوة المتعددة الجنسية من خلال مسلحين متطرفين قيل إنهم على علاقة مباشرة بها، وتلقوا منها الأوامر. ما لبث هؤلاء أن أضحوا نواة «حزب الله».
كانت السيارات المفخخة أشبه بطرود بريدية للتخاطب في حمأة النزاع المستعر بين إيران والغرب.
الطريقة نفسها تتوسلها «القاعدة» في عملياتها الأمنية في كل مكان تضرب فيه، وأحدثها في العراق وسوريا، وباتت اليوم في قلب لبنان.
في جانب من الاتهامات التي سيقت إلى السعودية، الغاضبة من الحوار الأميركي ـــ الإيراني والغربي ـــ الإيراني، محاولتها ممارسة ضغوط على هذين الحوار. ربط البعض الواسع الاطلاع بين تلك الضغوط وموقف سلبي نافر وغير مألوف رافق زيارة وزير الخارجية الأميركي جون كيري للرياض في 4 تشرين الثاني. يومذاك، تبعاً لمعلومات ديبلوماسية، ألغى مدير الاستخبارات السعودية بندر بن سلطان موعداً مقرراً سلفاً مع كيري، وعزي السبب إلى أن ليس لدى بندر ما يتحدث فيه معه. لا يريد أيضاً الإصغاء إليه، أو إبلاغه أي موقف.
3 ـــ قد لا يكون كافياً الظن أن تفجيري بئر حسن يمثلان أداة ضغط إضافية على حزب الله، بعد تفجيري بئر العبد والرويس، لإرغامه على سحب مقاتليه من الحرب السورية. لا الحزب سينسحب منها بعدما وصف أمينه العام السيد حسن نصرالله علاقة الحزب بها بأنها وجودية، ولا «القاعدة» تكتفي بهذا السبب لتبرير هجماتها أو للتفكير بالخروج من لبنان، وقد أطلت برأسها للتو بقوة. كان التنظيم قد أضاف في البيان الذي أصدرته «كتائب عبدالله عزام» الثلاثاء شرطاً آخر هو إطلاق أفراد منها من سجن رومية.
بذلك لا يحصر نزاعه واستخدامه الهجمات الإرهابية ببعد إقليمي، بل يفرد لنفسه مكاناً في قلب الوضع اللبناني، وفي مواجهة السلطة اللبنانية في الملف الأثقل في علاقتها بالتنظيمات السلفية والمتطرفة، وهو وجود معتقلين ومتهمين منها في سجونها.
على نحو كهذا، أضحى لفريقي 8 و14 آذار شريك في تعميم الفوضى الأمنية، بعد تعميمهما الفوضى السياسية.