اسمها «نور النهار». أو هذا ما صار اسمها منذ 11 عاماً، عندما حضرت للعمل في لبنان، آتية من بنغلادش. نور، الشابة التي صار لها من العمر 39 عاماً، كادت تطير من النافذة أمس، بلا رجعة. هكذا، «بشربة مي كنت رح موت»، تقول بلكنتها المحببة التي صاغتها بصعوبة، فلا يعرف السامع ما هي. تلك اللكنة التي لا يتقنها إلا الآتون من البلاد البعيدة للعمل هنا.
كانت نور تعدّ قهوة الصباح في المنزل الذي تعمل فيه في منطقة الجناح، عندما دوّى الانفجار الأول. ارتعدت لصوته، فلم تكد تصل إلى نافذة المطبخ، حتى دوى الانفجار الثاني. لم تعد تذكر ما الذي حدث. سبحت في دمها وغابت، لتستفيق بعد قليل على سرير أبيض، في غرفة مزدحمة ببشر سابحين هم أيضاً في الدم نفسه.
عندما استفاقت من نومها المؤقت في طوارئ مستشفى بيروت الحكومي، لم تجد أحداً بجانب سريرها. تذكرت سريعاً أن لها ابنة، ولو أنها هنا، لكانت قد وقفت إلى جانب أمها، كما يقف الكثيرون أمام أسرّة أقربائهم، لكنها كانت وحدها تنتظر وصول «المدام». تماماً كـ«آلم»، الفتاة التي كانت وحيدة هي الأخرى. تنظر إلى جسدها الذي صار كـ«المنخل» وتبكي. وكلما غرز الطبيب خيطاً فيها، غاصت في نوبة بكاء قاسية وأعادت معها قصتها «كنت عم نضّف قزاز البرندا وكنت رح موت».
كان صوت آلم موجعاً. ربما، لأنها «غريبة»، تقول إحدى السيدات التي كانت تنتظر قريبتها في السرير المجاور لسرير الشابة الإثيوبية، لكن، فاتها أن الموت لا يميز أحداً. أمس، اختنقت غرف الطوارئ الـ16 في مستشفى بيروت الحكومي بجرحى الانفجارين، حيث وصلت حصيلة الآتين إليها إلى حوالى 70 جريحاً. وهو رقم أحصاه الممرضون حتى فترة ما بعد الظهر، وسيتغير في أي وقت. ومن بين هؤلاء، كان هناك «عدد لا بأس به من المصابين الأجانب، من إثيوبيا وبنغلادش وساحل العاج والفيليبين، والسوريين أيضاً»، يقول أحد الممرضين. وهو أمر لا يحتاج إلى اكتشاف، تكفي جولة بسيطة بين الأسرّة، لنعرف «الغرباء». ليس في «الحكومي» وحده، وإنما في كل المستشفيات التي توزع عليها الجرحى والشهداء، ومنها مستشفيات الزهراء وبهمن والرسول الأعظم والساحل. أما الأموات منهم، فقد كانوا في غالبيتهم من المواطنين السوريين.
قد يكون هؤلاء الجزء الأبرز من مشهد الموت المزدوج الذي وقع في الجناح. وهو ما يختلف عن ذلك الذي حدث في الرويس قبل فترة، لكنه، ليس الاختلاف الوحيد، فمع كثرة الموت في المكانين، ثمة ما حدث هنا: الموت «المُدَوْبَل» مع انفجارين، فالوحش كان بارعاً في جر ضحاياه إلى موتهم، عندما «أغراهم» بالانفجار الأول. وعندما تجمهروا «أهداهم» الآخر. ثمة ما هو أقسى من الرويس أيضاً. أشلاء الناس التي صارت مداساً. كانت كثيرة «أكثر بكثير مما كان في الرويس»، يقول أحد الممرضين، الذي هاله ذلك الكم من الأشلاء، كما طريقة الموت المخيفة. يقول عماد، أحد العاملين في طوارئ المستشفى الحكومي «لم أر مثل هذا الموت من قبل، فطيلة فترة عملي لم يواجهني موقف كالذي وضعت فيه عندما انفلش جسد امرأة متفحمة في يدي، أو عندما رأيت رأس أحد الضحايا ينفصل عن جسده عندما كنا نركض به». ثمة ما حمله أيضاً وبقي حائراً ما إذا كان ذلك الكيس يحمل «جسد فتى أو رجل، فعلى صغر ذلك الجسد إلا أنه كان ثقيلاً».
من الحكومي الذي احتضن 7 شهداء، إلى مستشفى الزهراء الذي فاق عدد الشهداء فيه التسعة. كان المشهد شبيهاً بالذي سبقه. ملهوفون ينتظرون جريحاً، وآخرون يبحثون بين الأسماء الكثيرة عن مفقود قد يجدونه هنا، وآخرون عرفوا لتوهم أنهم سيخرجون خلف جنازة. ومنهم عائلة علاء الخرسا. الشاب الذي هرع من مكان عمله عند الانفجار الأول كي يلملم الجرحى، فأتاه الموت في انفجار ثان. كان صعباً على العائلة في تلك اللحظات الحرجة تقبّل موت ابنها. في حضرة الموت الذي حدث لتوه، سيقول المفجوعون، كل المفجوعين، ما قاله والد الشاب «إنتو عم تقولو هيك، علاء ملاك ما بيموت، أنا بعرف، بيكون بشي غرفة رح اطلع شوفو».
عند باب غرفة الموت، كان الكل يقول الكلام نفسه. لن يصدقوا قبل أن يروا التراب يُهال على أحبائهم. ومع ذلك، سيكونون أكثر المفجوعين بذلك الموت الحارق. ستبكي أم علاء لأنها لن ترى وجهه إلا «في الصور، ما رح حصّل شوف وجّو بالنعش، راح». هذه الحسرة التي لا يفهمها الوحش الذي افتعل كل هذا الموت. علاء واحد من بين 23 ضحية، بحسب إعلان وزارة الصحة العامة، راح غالبيتهم في الانفجار الثاني. وثمة من يقول، إنه «في الانفجار الأول لم يمت إلا واحد فقط، بلال زراقط»، حارس أمن السفارة، الذي يقال إنه كان «أول من اكتشف الأمر»، لكنه لم يستطع أن يكون بطلاً. غلبه الوحش. ساقه ومعه الكثيرون، ممن كانوا يخططون حتى لحظة موتهم لحيواتهم ومستقبلهم.
وبالعودة إلى الأرقام التي أحصتها وزارة الصحة العامة، فقد أشارت إلى 23 شهيداً و146 جريحاً. وهي أرقام غير نهائية. أما بالنسبة إلى الهيئة الصحية الإسلامية، فقد أحصت رقماً تقريبياً آخر، يختلف بعض الشيء عن رقم الوزارة، وهو سقوط نحو 20 شهيداً وما يفوق الـ150 جريحاً. وفي جميع الأحوال، الرقم لن يبقى ثابتاً. ولهذا السبب، دعت الوزارة إلى «بقاء الطواقم الطبية في المستشفيات كافة على أهبة الاستعداد، واستقبال الجرحى في كافة المستشفيات».