ليل حزين مضى ببطء على طاقم السفارة الإيرانية. اختبأوا في ظلمته. تبادلوا العزاء بزملاء لهم قضوا في اعتداء أمس. تحدثوا كثيراً عن الشيخ ابراهيم الأنصاري والحاج رضا. عن محمد هاشم وعلاء الخنسا. عن حسين فاعور وصباح الخطيب. عن أحمد وبلال زراقط. عن يوسف غصن ومحمد عساف. الشيخ لن يزور السفارة بعد اليوم. والحاج رضوان فارس لن يحتضنهم. محمد وحسين وصباح وأحمد وبلال ويوسف لن يرابطوا مجدداً على تخوم تلك القلعة الدبلوماسية...
ما كانت ساعات النهار لتسمح ولو بلحظة تأمل. أحداث تسابق عقارب الساعة منذ الانفجار الأول الذي دوّى على حين غرّة. رجل يسير في شارع السفارة، ما أن وصل الى بابها حتى انحرف مفجّراً حزاماً ناسفاً. كان يريد، على ما تبين لاحقاً، فتح كوّة لسيارة يقودها انتحاري آخر لاقتحام المبنى وتفجيره من الداخل. ثوان قليلة كان الحاج رضا قد انتقل خلالها من مكتبه في داخل المبنى إلى الباب الخارجي. قدماه كانتا أسرع من تفكيره. أراد الاطمئنان إلى شبابه. السفير غضنفر ركن ابادي في طريقه لركوب السيارة مع الشيخ الأنصاري الذي كان ينتظر داخلها. كانا في طريقهما إلى موعد مع وزير الثقافة غابي ليون عندما دوّى الانفجار الثاني. بضع شظايا تطايرت أفقدت الشيخ حياته. الحاج رضا قضى نحبه هو الآخر. لم ينتظر الموت، بل هجم عليه. لمح السيارة مسرعة في اتجاه السفارة. بادر رجاله بإطلاق النار على الانتحاري. كانت قدماه سبّاقة مجدداً. رمى بنفسه على السيارة. أراد حماية رجاله، فكان الانفجار أسرع منه.
الخبر انتشر كالنار في الهشيم. دمار هائل طال المباني على جانبي الشارع. حشود تجمعت للمساعدة في انتشال الجثث واسعاف الجرحى. وانهالت الكاميرات لاستطلاع الأجواء، ومعها اتصالات هاتفية من كل حدب وصوب، قبل أن تتدفق الوفود الرسمية المتضامنة.
لم يكن هناك من وقت لالتقاط الأنفاس. وجوه مصدومة وعيون حزينة. لكن الماكينة تعمل كالمعتاد. علي شرف الدين، مدير مكتب السفير، يمارس عمله كالمعتاد. يتلقى الاتصالات ويستقبل الضيوف. «فقدنا اعز أحبابنا وأخوتنا»، قالها ركن أبادي بغصة. كانت يتحدث عن «شهداء السفارة» جميعهم.
كثيرون يعرفون الشيخ الأنصاري، رغم أنه لم يمض سوى شهر واحد على وصوله لبنان بعد تعيينه مستشاراً ثقافياً. كانت لافتة مبادرته، في أول أيام تسلمه مهامه، زيارة مفتي الجمهورية الشيخ رشيد قباني ودعوته إلى زيارة إيران. هو المشهور بثقافته وانفتاحه، كان من أوائل مؤسسي ثقافة الحوار والمستشارية الثقافية في إيران. ولعل أصوله الشيرازية كانت عاملاً مساعدا. فهو ينتمي إلى منطقة لامارد في الجنوب الإيراني حيث تتعايش أقوام واتنيات متعددة. وكثيرون أيضاً يعرفون الحاج رضا. أحد مؤسسي السفارة وحزب الله والمقاومة الإسلامية في لبنان. شهد مراحل العمل المقاوم كلها، من البدايات الأولى، وهو «يعرف الكبيرة والصغيرة» فيه.
لم تكن المرة الأولى التي يسيل فيها الدم الإيراني في لبنان. كثر دفعوا ثمن دعمهم للمقاومة، يتقدمهم السيد حسن الشيرازي الذي اغتيل في بيروت عام 1980 فيما كان متوجهاً للمشاركة في مجلس فاتحة أقامه لمناسبة رحيل المرجع السيد محمد باقر الصدر وشقيقته بنت الهدى على يد النظام العراقي. ومسؤول العلاقات الخارجية في الحرس الثوري والمستشار الإيراني لشؤون الشرق الأوسط لدى مجلس قيادة الثورة محمد صالح الحسيني الذي اغتيل عام 1981 في الرملة البيضا. فضلاً عن الدبلوماسيين الإيرانيين الأربعة الذين اختطفوا على حاجز البربارة عام 1982، وغيرهم كثر...