عن عمر ناهز 92 عاماً، رحل وديع الصافي (وديع فرنسيس، 1921ـــ 2013) بعدما أصيب بوعكة عند السابعة من ليل أمس، حين كان في منزل نجله طوني، فنقل إلى مستشفى Bellevue في المنصوريّة حيث فارق الحياة. برحيله حكاية من عمر لبنان انطوت. حكاية فن وعشق قاربت الـ 75 عاماً من العطاء، بدأها في «راديو الشرق» في سن السابعة عشرة (1938)، وتوّجها بنجاحات كبيرة في المهرجانات، بين بعلبك وجبيل أواخر الخمسينيّات، ومطلع الستينيات.
ابن بلدة نيحا الشوفيّة، منها كانت انطلاقته الأولى. هناك، لفت انتباه أساتذته في مدرسة الضيعة، ثم في مدرسة الآباء المخلصين في بلدة جون. ووصلت أصداء شهرته إلى أنحاء العالم، وحمل أربع جنسيات هي المصريّة، والفرنسية، والبرازيلية، إضافة إلى جنسيته اللبنانية.
وقع خبر رحيله كالصاعقة على محبيه. فور إعلان الخبر، امتلأت صفحات التواصل الاجتماعي بعبارات التعزية والمواساة. المطربة الكبيرة سعاد هاشم نعت «وديع الخسارة الكبيرة. حين أسمع صوته، أتذكر لبنان بصخره وزهره وشموخ أرزه». تتذكر لقاءهما في «مهرجانات الأنوار» (أنشأها الصحافي الراحل سعيد فريحة) في الستينيات. يومها تحدى أحدهما الآخر بمواويل العتابا وأبو الزلف، وغنيا معاً «ودي يا بحر ودي/ طولنا بغيبتنا/ ودي سلامي لبيت جدي/ وللتوتة اللي بدارتنا». وأشارت هاشم إلى الصولات والجولات التي قاما بها معاً في العواصم العربيّة، منها الكويت ومصر، مشيرة إلى أنّ الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر كان يزور السفارة اللبنانيّة في مصر، ليستمتع بصوت وديع وسعاد. لفت صاحب «لبنان يا قطعة سما» الأنظار منذ كان صغيراً. خاله نمر العجيل كان أول من اكتشف موهبته، فعلّمه عزف العود، وأهداه آلة عود، احتفظ بها حتى آخر أيامه. عاش طفولة متواضعة، ودرس في «مدرسة دير المخلص»، وما لبث أن توقف عن متابعة تحصيله العلمي، بعدما سرقته الموسيقى والفن من علمه، فوجد في الغناء متعة وفرصة لمساعدة والده على إعالة العائلة. وكان أكبر أجر تقاضاه يومها ثماني ليرات ذهبيّة من الست نظيرة جنبلاط (والدة كمال جنبلاط)، وكان يومها لا يتجاوز الحادية عشرة.
شاءت الظروف أن يحمل له شقيقه توفيق، قصاصة ورق عن إعلان لمسابقة غنائيّة تنظمها «إذاعة لبنان» الرسمية المعروفة يومذاك بـ«إذاعة الشرق الأدنى». شارك وديع في المسابقة ونال الجائزة الأولى في الغناء من بين 40 متبارياً. وكانت اللجنة الفاحصة مؤلّفة من ميشال خياط، سليم الحلو، ألبير ديب ومحيي الدين سلام. وانتسب بعدها إلى الإذاعة، التي كانت بمثابة معهد فني، ساعدته على إنضاج موهبته. وهناك أطلق عليه اسم وديع الصافي بدلاً من وديع فرنسيس، كما أثبت سريعاً تميّزه، وكانت أولى أغنياته الخاصة «يا مرسال النغم».
يعد الشاعر أسعد السبعلي صاحب بصمة مهمة في مشوار التعاون مع الصافي. كانت البداية مع أغنية «طل الصباح وتكتك العصفور» عام 1940. خلال مشواره، تعاون مع مجموعة كبيرة من الشعراء. وكان مارون كرم أكثر من جمعه تعاون به امتدّ حتى السنوات الأخيرة من حياة كرم، الذي رحل قبل ثلاث سنوات. قدم إليه مئات الأغاني، أشهرها «بيت صامد بالجنوب»، «لا انت راضي»، «ندم» (دق باب البيت عالسكيت)، «مرسال الهوى». وفي نهاية الخمسينيات، انطلق العمل بين عدد من الموسيقيين من خلال «مهرجانات بعلبك»، التي جمعت وديع الصافي، وفيلمون وهبي، والأخوين رحباني، وزكي ناصيف، ووليد غلمية، وعفيف رضوان، وتوفيق الباشا، وسامي الصيداوي وسواهم. أما لقاؤه الأول بعبد الوهاب، فكان عام 1944، يوم سافر إلى مصر. مع بداية الحرب اللبنانية، غادر وديع إلى مصر عام 1976، ثمّ إلى بريطانيا، ليستقرّ عام 1978 في باريس. وكان سفره اعتراضاً على الحرب الدائرة في لبنان، كما عاش فترة في البرازيل. خضع الصافي عام 1990، لعملية قلب مفتوح، لكنها لم توقفه عن العطاء الفني تلحيناً وغناءً. وافق على المشاركة مع المنتج اللبناني ميشال الفتريادس في حفلات غنائية في لبنان، وخارجه مع المغني خوسيه فرنانديز والمطربة حنين.
رغم أن الراحل غنى ألحان الأخوين رحباني وزكي ناصيف (طلوا احبابنا)، ومحمد عبد الوهاب (عندك بحرية) وفريد الأطرش (على الله تعود)، لكن حصّة الأسد من أعماله، لحنها بنفسه، كما كانت له مشاركات في أفلام ومسلسلات مصريّة ولبنانيّة، منها «نار الشوق» (1970)، «الاستعراض الكبير» (1975)، «ليالي الشرق» (1965)، «إنت عمري» (1964)، إضافة إلى مسلسل «كانت إيام» (1964)، لكن السينما لم تكن ملعبه.
كرّمه لبنان مراراً، كما وضعت صورته على الطوابع البريدية مع صباح وفيروز، وحمل خمسة أوسمة نالها أيام الرؤساء كميل شمعون، وفؤاد شهاب، وسليمان فرنجية، والياس الهراوي، ومنحه الرئيس السابق إميل لحود وسام الأرز برتبة فارس، كما منحته «جامعة الروح القدس» في الكسليك دكتوراه فخرية في الموسيقى عام 1991. هكذا، طوى وديع الصفحة الأخيرة من مشواره الفني، تاركاً أكثر من 5 آلاف أغنية. رصيد ضخم أسهم في نحت «هوية» فنية لبنانية انطلاقاً من أصولها الفولكلورية وتراث بلاد الشام بصوت «أبوي» نادراً ما يتكرّر.