يستعيد أحد الزوار الفرنسيين لبيروت هذه الأيام، مجمل المشهد الفرنسي المأساوي الراهن. يعتبر أن بلاد موليير باتت فعلاً في عمق "انكسار مجتمعي" خطير. قادر على التشظي في أي اتجاه. من الفوضى الكبرى إلى ميني حرب أهلية. فيما كل المقاربات للمعضلة المطروحة، تبدو ساقطة في خانة الاستثمار السياسي لا غير، أو حتى الاستغلال الانتخابي البحت.
النموذج الواضح لهذا السلوك، قدمه الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند كما يقول. يشرح كيف أنه منتصف تشرين الأول الماضي بلغت شعبية خليفة نابوليون أدنى مستوى لها، مسجلة رقماً قياسياً في الهبوط إلى 20 في المئة فقط من الراضين عن رئيس فرنسا، من بين المستطلعين. بينما رئيس وزرائه، مانويل فالس كان عند مستوى 36 في المئة من الرضا الشعبي. ما أرخى على الإليزيه جواً قاتماً من الإحباط والخيبة، قبل أقل من عامين على الاستحقاق الرئاسي الفرنسي. فجأة ضرب الإرهاب الداعشي في قلب مدينة الأنوار. ليل 13 تشرين الثاني 2015، سهرت باريس على أضواء صفارات الإنذار وسيارات الإسعاف والشرطة الهارعة في كل اتجاه. مئات القتلى وأكثر منهم من الجرحى، سقطوا في ما سمي 11 أيلول الفرنسي بامتياز.
وكما كتب روبرت باري ذات مرة، أن أسامة بن لادن هو من اختار جورج بوش رئيساً لولاية ثانية سنة 2004، مستنداً إلى توقيت رسائل زعيم القاعدة المسجلة عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية، هكذا أيضاً بدا أن في باريس من يحاول تكرار النموذج، فيحوّل الهجمات الإرهابية الأكثر عنفاً على الأراضي الفرنسية، ورقة دعائية في سياق حملة إعادة الترشح وإعادة الانتخاب لولاية رئاسية ثانية. منذ اللحظة الأولى لما بعد المجزرة، بدت خطة فريق هولاند للفوز بخماسية جديدة في الإليزيه بسيطة حتى حد التبسيط: رفع سقف الخطاب "الوطنجي" للرئيس. وتعبئته بأعلى مستويات الخطر والخوف وصورة القائد السوبرمان. خطب نارية. تشدد أمني. استنفار عام حتى فرض حال الطوارئ. وصولاً إلى اكتساب أدبيات الرئيس الاشتراكي اليساري لمضامين يمينية في مواقفه المستجدة، خصوصاً حيال المهاجرين والأجانب وغير الفرنسيين المقيمين على الأراضي الفرنسية، أو حتى تجاه الفرنسيين من أصول مهاجرة. وهو ما كان يشكل تقليدياً قاموس الخطاب السياسي الدعائي لليمين المتطرف. فيما كان اليسار الفرنسي الذي يمثله هولاند في طليعة الرافضين له والمندّدين بأصحابه والجازمين بعدم تبنيه أو تحويله سياسة فرنسية حكومية رسمية. لماذا هذا التحول؟ لأن الخطة الانتخابية كانت تقضي بكل بساطة العمل على جذب قسم من أصوات اليمين، بما يكفي لوصول هولاند إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية المفترضة في أيار 2017. مع التقدير أن المنافس الآخر المقدر له أن يجتاز الدور الأول عندها، لن يكون أي مرشح يساري أو وسطي أو حتى يميني آخر. بل مارين لوبن زعيمة الجبهة الوطنية لا غير. عندها، ولحظة المواجهة النهائية بين هولاند ولوبن في الدور الثاني، تستفيق فرنسا على قاعدة "الميثاق الجمهوري" ضد اللوبنيين، كما فعلت مع جاك شيراك ضد والد مارين، جان ماري لوبن سنة 2002. فتصبّ غالبية الأصوات لصالح هولاند ويعاد انتخابه وسط عرس فرنسي جمهوري جامع!
كان كل شيء معدّاً لهذه الخطة. وصولاً حتى خروج الرئيس ــــ المرشح بعد أيام قليلة على مجزرة 13 تشرين الثاني، ليعلن عن مشروعه تعديل الدستور، بما يسمح بإسقاط الجنسية الفرنسية عن الإرهابيين الذين يحملون جنسية مزدوجة. طبعاً لم يكن للمشروع أي طابع ردعي جدي. إلا إذا كان ثمة عاقل يعتقد بأن الذاهب إلى تفجير نفسه، سيرتدع عن الأمر حين يدرك أنه لن يظل فرنسياً بعد انتحاره! لكن الغرض الفعلي من الطرح الهولندي، كان مقارعة لوبن على أرضها وأمام جمهورها، لاستمالة ما أمكن منه، تمهيداً لمنازلة أيار 2017.
انطلق مشروع التعديل الدستوري فعلياً. في نهاية 2015 أظهر استطلاع للرأي أن أكثرية فرنسية واضحة تؤيده. حتى أنه بدا أمام عبور سهل نحو الإقرار، في محطة أولى أمام الجمعية الوطنية في 10 شباط الماضي. حيث صوتت أكثرية 317 نائباً مع قانون "حماية الأمة"... للتذكير قانون دبليو بوش المماثل ضمن المسرحية الأميركية المقابلة، حمل اسم "قانون الوطن"! وفيما باتت الأنظار متجهة صوب المراحل النهائية التالية لإبرامه، خرج هولاند فجأة يوم 30 آذار الماضي بخطاب يعلن فيه سحبه مشروع التعديل الدستوري الذي اقترحه. لماذا؟ ما الذي حصل في تلك الأيام الفاصلة؟
يروي الفرنسيون السائحون في بيروت هذه الأيام، أن السبب يعود إلى الواقعة التالية: في 24 آذار الماضي، فضحت وسائل الإعلام الغربية والعالمية بصور مذهلة، جريمة إعدام جندي صهيوني لموقوف فلسطيني ممدّد أمامه على الأرض. في اليوم التالي، تلقى هولاند على هاتفه الخلوي رسالة نصية قصيرة، أرسلها إليه أحد أصدقائه من المسؤولين في الحزب الاشتراكي. يقول له فيها: "هل رأيت حادثة إقدام هذا الجندي الاسرائيلي على قتل أسيره الفسطيني؟ فظيع هذا المشهد". فأجابه الرئيس الفرنسي: "نعم شاهدته. هذا غير مقبول". فرد المسؤول الاشتراكي: "علينا أن نسرع في إقرار مشروعك لتعديل الدستور. لقد تبين لنا أن هذا الجندي يحمل الجنسية الفرنسية أيضاً. عندها نسقطها عنه، فتكون رسالة جيدة"! انتهت المحادثة بين الرجلين. في اليوم التالي انتهى مشروع الرئيس... يوم السبت يزور هولاند بيروت، حاملاً مشاريع فرنسية ــــ لبنانية كثيرة!