في تشرين الأول من العام 2007، أطلق ميشال ألفترياديس حملة تحت عنوان حق لبنان واللبنانيين في عدم دفع الديون الجائرة التي ترتبت على البلد وشعبه. يومها لم يتوقف كثيرون عند جدوى المسألة. لا بل قابلها البعض باستخفاف. باستثناء أصحاب خزنات سندات الخزينة وشهادات الإيداع بمليارات المليارات، الذين تحركوا علناً وسراً، قضاء وقهراً، من أجل إسكات الرجل ومنع تحول مطالبته إلى حركة شعبية أو مطلب وطني يفرض نفسه على ما تبقى من دولة ومؤسسات وسلطات وشرعيات في البلد المديون نهباً، والمكسور سرقة وهدراً.
علماً أن ألفترياديس دأب طيلة عام ونيف على شرح طرحه. عرض للناس مجموعة دراسات جدية، في القانون والسياسة والاقتصاد والمال، حول هذا الباب المشروع والمحق والذي تلجأ إليه الشعوب المقهورة والمحتلة، أكان من خارجها عبر انتهاك سيادتها، أو من داخلها عبر تسلط زمر الحرامية على مقدراتها وثرواتها. إحدى تلك الدراسات موقعة من جامعة هارفرد. أخرى من جامعة ماك جيل الكندية المرموقة. فضلاً عن أدبيات كاملة حول القضية، أعدّتها ووثّقتها منظمة إلغاء ديون العالم الثالث. كما أرفق الطرح بأمثلة محسوسة من عالمنا الراهن. كيف تمكنت دول كثيرة وشعوب عدة بائسة كما شعبنا، من المكسيك إلى الأرجنتين، ومن أندونيسيا إلى العراق، من استعادة حقوقها في أوطانها ولقمة عيشها والتخلص من رواسب الاحتلالات أو الطغيان... وظل الأمر بلا طائل.
كان الدين العام يوم طرح ألفترياديس مقولته في الخمسينيات من مليارات الدولارات. ولم يتحرك مسؤول، ولا مواطن. بعد أعوام تابع ديننا العام قفزاته، مع استمرار سرقة البلد ونهبه وهدر ثرواته. حتى بات اليوم فعلياً، بين أرقام الدين الرسمي وأرقام الديون المستحقة ومترتبات الدولة ومؤسساتها المختلفة... يلامس الأرقام الثلاثة من المليارات الخضراء.
في الفترة نفسها، كان ثمة مثال قريب جداً لكارثتنا، تعيشه دولة أوروبية صغيرة اسمها إيسلندا. فبين فساد حكامها، وهيمنات بعض الجهات الخارجية على استقلالها وقراراتها، وصل الشعب الإيسلندي المكون من نحو 320 ألف مواطن، إلى الرزوح تحت دين عام بلغ نحو 3.5 مليار يورو. رقم هائل رتب على العائلات الإيسلندية السقوط تحت برامج سداد دولية بفوائد عالية نسبياً، على مدى خمسة عشر عاماً. كل ذلك بفضل فساد الحكام وسوء إدارة المسؤولين. لكن الشعب الإيسلندي الصغير رفض الكارثة المفروضة عليه. نزل الإيسلنديون إلى شوارع دولتهم الجليدية سنة 2008. حملوا صقيع بطونهم ونار قلوبهم وصمدوا في الساحات. حاول صندوق النقد الدولي، كما عادته وعلة وجوده ودوره كآلية احتلال معولمة، فرض هيمنته عليهم. لكنهم واجهوه. حتى أسقطوا حكومة الكارثة. وفرضوا الذهاب إلى انتخابات نيابية مبكرة. بعدها، أقاموا هيئة تشريعية تأسيسية انتقالية. وذهبوا إلى صياغة دستور جديد للبلاد. وبعد إعادة تكوين سلطتهم الوطنية، بدأوا سلسلة إجراءاتهم للتغيير والإصلاح والمحاسبة: على مدى عامين ونيف، بين 2008 و2009، فرضوا تأميم بعض المصارف المتواطئة في سرقة البلاد. سطّروا مذكرات التوقيف في حق المتلاعبين بمقدرات الناس، من مصرفيين ورجال أعمال وسياسيين ومسؤولين حكوميين وموظفين عامين. حتى تمكنوا سنة 2010 من إجراء استفتاء شعبي عام، أقر بنسبة 93 في المئة، رفض الإيسلنديين دفع الديون الجائرة التي أنزلت بدولتهم نهباً وهدراً. كان لديهم هم أيضاً، رئيس حكومة فاسد. لكنهم تمكنوا من إحالته إلى القضاء. حتى اضطر الإنتربول إلى إصدار مذكرة توقيف دولية بحق رئيس الجمهورية الإيسلندي السابق، بشبهات الفساد وصرف النفوذ والإثراء غير المشروع...
استمرت ثورة ريكيافيك البيضاء حتى العام 2012. في تلك السنة، حققت إيسلندا أرقام نمو بلغت ثلاثة أضعاف الأرقام الأوروبية. على قاعدتين أساسيتين: وقف الفساد، وخلق فرص العمل. كل ذلك في إطار قانوني دستوري، كفله الدستور الجديد، عبر إصلاحات أبرزها: الحق لكل مواطن في الاستعلام عن كل شأن عام. هيئة مراقبة مستقلة لعمل الحكومة. الحق في الاستفتاء بناء لطلب عشرة في المئة من الناخبين. استقلال فعلي ناجز للقضاء. ولامركزية كاملة للوحدات الإدارية في إدارة مصالحها المحلية... هكذا انتقل بلد صغير، بشعب عنيد، من نظام "الديبتوقراطية"، أو حكم الديون، إلى نظام ديمقراطي سوي.
هل يصلح المثل الإيسلندي للبنان؟ كي لا تكون المقاربة تعجيزية لبلد غارق في نفاياته وفضائح حكومته حيالها، يمكن الاكتفاء بأرقام ألمانية. في رايخ السيدة ميركل، هناك نحو 80 مليون نسمة، على مساحة توازي 35 ضعف مساحة بلدنا السيد. ومع ذلك، لدى ألمانيا حكومة من 14 وزيراً فقط. تأتي رئيستهم كل يوم إلى عملها من منزلها المتواضع، وتعود إليه بسيارتها. يعمل في حكومتها 300 موظف فقط. وفي مقرها مرآب يتسع لسبع وثلاثين سيارة لا غير. يأتي بعض وزرائها إلى جلسات حكومتها بواسطة النقل المشترك. تتقاضى هي مخصصات لا تتعدى 16 ألف يورو شهرياً، وموازنة مستشاريتها السنوية لا تتعدى 38 مليون يورو سنوياً ... هل يجرؤ أي مسؤول لبناني على مقاربة هذه الأرقام أو مقارنتها؟ سؤال برسم سكان القصور، وساسة القصور.