في 10 آذار 2015، قرّرت السويد فسخ معاهدة تعاون عسكري مع السعودية كانت تدرّ لها ملايين الدولارات. لم تهتم السويد لهذه المبالغ، بل كانت مهتمة أكثر بالردّ على قرار منع وزيرة خارجية السويد من إلقاء كلمة في جامعة الدول العربية بعد تصريحاتها عن انتهاكات الحرية في السعودية. السويد كان لديها المرونة والقدرة للاستغناء عن ملايين الدولارات الممولة بالنفط السعودي، فهل يملك لبنان مثل هذه المرونة والقدرة لمواجهة الجنون السعودي؟

نموذج الدول المتخصصة

«كان لدينا شركات كبيرة لديها حصّة وازنة من الأسواق الدولية. فعلى سبيل المثال، كان هناك شركة طيران الشرق الأوسط، وشركة الكات... تعدّ هاتان الشركتان من اللاعبين الكبار في الأسواق الإقليمية والدولية، لكن اليوم لم تعد لدينا هذه الميزة. السبب يكمن في أموال البترول التي خيّمت فوق رؤوسنا وجعلتنا نتكيّف طوعياً للحصول على مكسب سهل. اليوم نعتمد على هجرة الشباب وعلى بيع الأراضي لتحقيق الأرباح».
هذه العبارة جاءت ردّاً من الوزير السابق شربل نحاس على سؤال عن حجم الترابط بين لبنان والسعودية. فكرة نحاس قائمة على أساس المقارنة بين النشاط الاقتصادي المحلي وتجارة لبنان الخارجية. «أي نشاط اقتصادي، سواء كان صناعياً أو خدماتياً، أو تجارياً، مردوده يزيد كلما كان حجم المؤسسة أكبر. الكلفة متدنية على المؤسسات الأكبر». لذلك، إن الكلفة في لبنان مرتفعة نظراً إلى صغر حجم البلد قياساً إلى عدد سكانه، وهذا يجعله شبيهاً بالكثير من الدول؛ من بينها النروج (5 ملايين نسمة)، السويد (9.5 ملايين نسمة)، فنلندا (5.5 ملايين نسمة)، سويسرا (8 ملايين نسمة)، النمسا (8.5 ملايين نسمة)، هولندا (16.8 مليون نسمة)... إلا أن هذه الدول تعد اليوم متخصصة في بعض المجالات، ما جعل حصّة التجارة الخارجية من إنتاجها مرتفعة، خلافاً للأرقام التي تخصّ لبنان. فعلى سبيل المثال، إن هناك 10 شركات سويدية تحتل مراكز أساسية في الأسواق العالمية؛ من بينها أيكيا، إلكترولوكس، سكايب، H&M، أريكسون. كذلك هناك شركة نستلة التي تمثّل 20% من الأسواق العالمية هي سويسرية، شركة «نوكيا» هي فنلندية، والجبنة الهولندية تغزو العالم إلى جانب الزهور... كل هذه البلاد وجدت تخصصاً جعلها تتخلص من عبء تركّز المخاطر في التجارة الخارجية، أي أن أسواقها موزّعة ومنتشرة في العالم وليس لديها تركّز كبير في المخاطر مع سوق واحدة أو اثنتين. هذه المرونة منحت السويد القدرة على وقف مبيعات الأسلحة للسعودية، ولم تتأثّر أيضاً بقرار وقف التأشيرات للسويديين العاملين في السعودية... بالنسبة لمثل هذه الدول، إن الدول المستوردة ليس لديها قدرة كبيرة للضغط عليها وابتزازها، كما يحصل مع لبنان حالياً. «إن إقفال سوق واحدة أمام أي من هذه الدول التي لديها مؤسّسات منتشرة في العالم، لن يؤذيها بنفس نسبة الأذى الحاصل لو كانت تعتمد بنسبة كبيرة على هذه السوق أو كانت تمثّل شريان الحياة الأساسي لها» يقول نحاس.

تركّز المخاطر

حصّة الخليج من التجارة الخارجية للبنان كبيرة نسبياً، إذ يصدّر لبنان إلى هذه الدول بقيمة 859.5 مليون دولار، أي ما يوازي 29.1% من مجمل الصادرات التي بلغت 2.9 مليار دولار في نهاية 2015. وتمثّل السعودية والإمارات العربية المتحدة أكبر سوقين للصادرات اللبنانية وحصّتها 77.8% من الصادرات اللبنانية لدول الخليج. اللافت في هذا الأمر أن الاستيراد اللبناني من الخليج أكبر بكثير من الصادرات اللبنانية. قيمة ما يستورده لبنان من الخليج يبلغ 1.14 مليار دولار، أي ما يوازي 6.3% من مجمل الواردات. أيضاً تمثّل السعودية والإمارات أكبر مصدرين للواردات وحصّتهما 67.5% من مجمل الواردات الخليجية إلى لبنان.
في المجمل، إن الميزان التجاري بين لبنان وشركائه الخليجيين يميل إلى مصلحتهم. ميزان لبنان عاجز مع السعودية بقيمة 23.4 مليون دولار، وبقيمة 75.3 مليون دولار مع الإمارات، وبقيمة 261.1 مليون دولار مع الكويت... الميزان الوحيد الرابح لمصلحة لبنان في تجارته الخارجية مع دول الخليج هو مع قطر التي تصدر للبنان بقيمة 22.7 مليون دولار وتستورد بقيمة 78.7 مليوناً. وإذا أضفنا تحويلات المغتربين إلى هذه الإحصاءات، يظهر أن ارتباط لبنان بالخليج كبير، وبالتالي كلما زاد التركّز المالي والتجاري زادت المخاطر والتبعية أكثر.
في الواقع، كان لبنان يتمتع بمرونة وقدرة تشبه تلك التي تتمتع بها دول مثل السويد وفنلندا وهولندا وسواها... إلا أن لبنان فقدها مع دخول أموال النفط الخليجية إلى لبنان. كان لدى لبنان عدد قليل من المؤسسات الكبيرة التي تعمل في الأسواق الخارجية، لكن لم تعد لديه هذه الميزة بعد نهاية الحرب الأهلية. «كنّا في السابق نركّز على عدد قليل من المنتجات ضمن مؤسسات كبيرة يمكنها أن تبيع في الأسواق العالمية، لكن حالتنا اليوم بعيدة مسافة سنوات ضوئية عن النماذج المتخصصة. نحن نصدّر عمالة، وإنتاجنا متدني القيمة المضافة. نحن على النقيض مما يجب أن نكون عليه. الناس تحب رديّة المؤسسات الصغيرة وعلب الكبيس وأعمال القرى، فيما هذا الأمر يضعنا في وضع سريع العطب أمام الضغوط الخارجية»، وفق نحاس.

التعظيم والتبعية

وصل الاستسهال في التعامل مع الدول النفطية الخليجية إلى درجة «التعظيم». صار اللبنانيون يبالغون في تقدير الأرقام مع الخليج لتبرير تبعيتهم السياسية. غالبية الأرقام التي تصدر عن جهات محلية، تشير إلى أن عدد اللبنانيين العاملين في الخليج لا يقلّ عن 300 ألف لبناني، وبعض الجهات تشير إلى 500 ألف لبناني عاملين في هذه الدول؛ أكثر من نصفهم في السعودية. وتذهب المبالغات أبعد عند ذكر حجم المبالغ التي يرسلها اللبنانيون المغتربون في تلك الدول. بعض التقديرات تشير إلى أن المغتربين في السعودية يرسلون 3 مليارات دولار سنوياً إلى لبنان، ويستفيد منها 600 ألف لبناني.
لكن في المقابل، تقول الإحصاءات الرسمية الصادرة عن منظمة العمل الدولية في تقرير بعنوان «العمل اللائق: التحديات في ضوء النزوح السوري» إن عدد المغتربين اللبنانيين يبلغ 684 ألفاً، منهم 57098 لبنانياً فقط يعملون في السعودية، والعاملين في الإمارات العربية يبلغ عددهم 24948 لبنانياً. حصّة هذين البلدين من مجمل المهاجرين بين عام 1991 و2009 تبلغ 8.3%، و3.6% على التوالي. الجالية اللبنانية الأكبر هي في الولايات المتحدة، حيث يبلغ عدد المغتربين 126 ألفاً، وفي أوستراليا يبلغ 96 ألفاً، وفي ألمانيا 67 ألفاً، وفي كندا 87 ألفاً، وفي بريطانيا 17 ألفاً، وفي الدانمارك 12 ألفاً. وتشير الإحصاءات المنقولة عن دائرة الاقتصاد والعمال الخارجية في الأمم المتحدة، إلى أن 10 دول؛ بينها السعودية والإمارات وأميركا وأوستراليا وكندا وفرنسا والسويد وبريطانيا، تمثّل 82% من مجمل المغتربين.
إذاً، هل يمكن التخفيف من مخاطر تركّز تجارة لبنان الخارجية مع دول الخليج؟ يجيب نحاس: «في البدء يجب إدراك هذا الأمر بكامله، وأن تكون هناك قدرة على تنفيذه. هذه القدرة هي عبارة عن دولة قوية وقادرة، إلا أنها غير موجودة اليوم لتغيّر المسار وتضعنا أمام خيارات جديدة وتخفف مخاطر التركّز في أسواقنا الخارجية».