ليس وليد جنبلاط وحده من يجيد تبديل المواقف، بذريعة تبدّل المعطيات والأولويات. جنبلاط يجيد الذهاب بنفسه الى من يجب أن يدفع له ثمن الخطأ. وهو يتكل، أصلاً، على أنه خارج المساءلة حتى إشعار آخر. وفي أوساط العاملين في الحقل العام، ثمة من يقفل النقاش قائلاً: إنه رجل سياسي، وليس شيئاً آخر! إذا كانت هذه هي حال السياسيين الذين يصنّفون، من جانب أولياء الثقافة والأخلاق والقيم الإنسانية والمبدئية، بأنهم فئة الانتهازيين. فكيف يمكن وصف أولئك الذين يدّعون الانتماء الى «نادي الأطهار»، وهم يتقلّبون على بطونهم وظهورهم بحثاً عن مرقد يفيد في بقائهم على قيد الحياة؟
تبدّل الأولويات، أو تبدّل المعطيات، يتيح تعديلاً في العلاقات، وفي التحالفات، وحتى في التعامل الإنساني مع هذا أو ذاك من البشر، أو مع هذه أو تلك من الجهات الناشطة. لكن، هل يحصل لمن يدّعي أنه يحمل منظومة قيم أن يقرر فجأة العفو عن عدو، والصفح عن جرائمه، وأن يقرّر، في الوقت نفسه، أن يختار عدواً آخر ويرجمه بكل القاذورات؟
بمعنى أوضح، كيف يمكن لرجل عاقل، لديه عقل وقلب، ولديه سنوات طويلة من المعرفة العميقة والمباشرة بما يجري في بلادنا، أن يقبل، وأن يتمنى، وأن يحلم بحصول عدوان أميركي على سوريا؟
كيف لهذا الشخص أن يعتبر أنه لا بأس من اللجوء الى «قوي» لمعاقبة من قرر هذا الشخص أنه يستحق العقاب. وكيف له أن يمنح الغطاء لارتكاب مجازر بحق مئات الألوف من المدنيين، بحجة أنه يريد معاقبة الحاكم؟
كيف لفئة أن تظهر إحباطاً شديداً عندما تسمع بأن مواطنين من الولايات المتحدة أو بريطانيا أو دول الغرب الاستعماري يتظاهرون رفضاً للعدوان على سوريا، علماً بأن هذه الفئة، أو هؤلاء الأشخاص، لطالما ناشدوا الجمهور في بلاد الغرب التحرك لوقف جرائم حكوماتهم؟
أي عقل يحرّك من يعتبر أن «مجرمي العصر»، كالذين ينتشرون مع الموت الأعمى في كل سوريا، هم من أبطال الحرية؟ وكيف لهم أن يبرروا تورط هؤلاء، ومعهم كتلة غير صغيرة من الجمهور، في مسلسل من الجرائم التي لم تكن تخطر على بال ... أكلّ ذلك نكاية بالحاكم؟
ألم تكن الشكوى، ولا تزال، من سيطرة دول العالم على المؤسسات الدولية؟ لماذا باتت هذه الفئة ترفض مجرد حصول تحقيق في جريمة أو مجزرة أو فاجعة كالتي تحصل يومياً في سوريا؟ ما الذي يجعل هؤلاء يقررون، في لحظة، هوية القاتل واسمه وعنوانه ونوع الحكم المفترض بحقه، ثم يقررون أن العقاب لا بد أن ينفذه المجرم الأكبر في العالم؟
كيف تستقيم الأمور عند هذه الفئة من الناس؟ كيف يمكن أن تكون حركة حماس حركة متخلفة وفاشلة وغاصبة إن هي كانت في الموقع نفسه مع قوى المقاومة، ثم تصبح خارج النقد إن هي أعادت الانتماء الى التنظيم الدولي للإخوان المسلمين؟ وكيف يمكن أن تكون الى جانب المقاومة ضد العدو وضد الاحتلال، ثم تتوقف عن الاهتمام بمحاربة هذا العدو لأنك وجدت أن المقاومة قد ضلّت الطريق؟
هل هي صدفة أن يكون كل الذين يدعمون الحرب العالمية ضد سوريا اليوم، هم أنفسهم الذين وقفوا ضد سوريا منذ عقدين أو أكثر؟ كيف لهم لا يبدّلون مواقفهم، ويظهرون مبدئية استثنائية، ثم تجد أنهم كانوا «أهل النفاق» كل الوقت حيال المقاومة ومحاربة إسرائيل؟
الحقيقة البديهية أن هؤلاء صاروا مثل المياومين الذين يعلنون المواقف، أو يصدرون البيانات، أو يكتبون المقالات على طريقة «غب الطلب». ليس من مبدئية عندهم، سوى الانتماء الى أكثر الفئات الانتهازية انحطاطاً. هم الذين لا يعرفون كيف يمكن أن يستمروا في حياة عادية، وقد وجدوا في الجنون والغباء ما يميّزهم عن الآخرين، فيشار إليهم بالإصبع، ويتم تداول أسمائهم وأفعالهم. صاروا مثل الذي قرر اكتساب الشهرة من خلال جريمة قتل مروعة.
طيب، لنفترض أن كل ما يقوله هؤلاء عن الحاكم في سوريا صحيح، فكيف لهؤلاء تبرير سيرهم خلف ممالك القهر الحاكمة في الجزيرة العربية؟ ألا يعرفون أن القيم التي يدّعون الدفاع عنها تمنعهم، أصلاً، من الاتصال بهؤلاء الجهلة، وإن فعلوا ألا يفهمون أن أكثر ما يحق لهم هو الصمت؟
شيء لا يمكن لأحد تغييره. إنه مثل الهواء. إنه حقيقة أن العدو سيبقى عدواً، ومن يمنع عنه هذه الصفة، صار خادماً عنده، وصار خائناً لشعبه، وما من عقوبة أرحم لكل خائن، سوى الموت!