اسطنبول - لعبت أنقرة وتلعب منذ اليوم الأول للأزمة في سوريا دوراً ريادياً، أولاً إلى جانب المعارضة، ومن ثم عبر استفزاز العواصم الغربية وتحريضها لضرورة تقديم المزيد من الدعم لها، وبالتالي التدخل المباشر في سوريا.
ويذكر الجميع كيف تقدمت الحكومة التركية بطلب رسمي للحلف الأطلسي في نيسان ٢٠١٢ ليدافع عن تركيا عندما أصابت رصاصة سورية شرطياً تركياً قرب الحدود في مدينة كيليس، وذلك خلال ملاحقة الجيش السوري مجموعة من عناصر «الجيش الحر» الذين تسللوا من تركيا.
وجاء الطلب التركي الثاني في ٢٢ حزيران ٢٠١٢ عندما أسقط الجيش السوري طائرة حربية تركية اخترقت المجال الجوي السوري خلال عملية تجسسية خطيرة، ليلحق بذلك طلب ثالث في آذار، عندما لقي ٥ مواطنين أتراك مصرعهم بسقوط قذيفة هاون في مدينة أكجا قلعة التركية القريبة من الحدود مع سوريا، بعدما شهدت المنطقة اشتباكات عنيفة بين الجيش السوري ومسلحي المعارضة الذين دخلوا المنطقة عبر الحدود. وتذرّعت الحكومة آنذاك بهذه المشكلة وحصلت على تفويض من البرلمان للردّ على أيّ استفزاز سوري مستقبلي. وبعدما فشلت في جميع مساعيها لإقامة حزام أمني داخل الأراضي السورية بحجة موجة النازحين السوريين، جاءت التطورات الأخيرة لتمنح حكومة رجب طيب أردوغان المزيد من الفرص لتحقيق أهدافها، وفي مقدمة ذلك دخول الشمال السوري وإحكام السيطرة على الشريط الحدودي الذي يوجد فيه التركمان والأكراد. ويفسر ذلك مساعي أنقرة طيلة العام الماضي لتوحيد وجمع شمل القوى والجماعات التركمانية في سوريا، ومن ثم تحقيق المصالحة مع حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي السوري، ودعوة زعيمه صالح مسلم إلى اسطنبول أكثر من مرة. وتخطط أنقرة لمثل هذا الوجود الفعلي المباشر أو من خلال العلاقة المباشرة مع الجماعات المسلحة الموجودة في المنطقة أن يساعدها، أيضاً، لترسيخ وجودها السياسي والأمني والاستخباري والاقتصادي في المرحلة التالية، أي بعد سقوط الرئيس بشار الأسد وقيام الدولة الفيدرالية السورية، على غرار الدولة العراقية. وعلى أن يكون الوجود التركي في الشمال السوري صمام الأمان لأيّ استفزاز سوري محتمل قد يستهدف العلويين المقيمين في منطقة أنطاكيا على الحدود التركية _ السورية، وخاصة أنهم امتداد للعلويين في سوريا. وتدفع كل هذه الحسابات، وتلك ذات الطابع العقائدي التركي، حكومة أردوغان إلى مزيد من التحرك الإقليمي والدولي للعب دور ريادي لم يتحقق لها في الحرب العالمية على العراق عام ٢٠٠٣، حيث رفض البرلمان التركي، حينها، نشر القوات الأميركية في تركيا، على الرغم من مساعي أردوغان لإمرار مذكرة الحكومة، بحجة أن ذلك سيمنح أنقرة حق التكلم مستقبلاً خلال الحديث عن تقرير مصير العراق وشماله الكردي والتركماني على نحو خاص. ويدفع هذا الحساب السابق أردوغان إلى وضع المزيد من الحسابات الاستباقية للمستقبل السوري، وخاصة إذا ساهمت الضربة المحتملة في زعزعة الواقع الأمني والعسكري للنظام، ما سيدفع تركيا إلى تقديم المزيد من الدعم العسكري لقوى المعارضة، مهما كانت تسميتها بهدف السيطرة على مدينة حلب وإعلانها منطقة محررة وتحت حماية تركية مباشرة بضوء أخضر أميركي وغربي. وكما فعل الغرب مع أكراد العراق عندما بعث قواته إلى تركيا لحمايتهم من جيش صدام شمالي خط العرض ٣٦. ودفعت هذه الحسابات التركية المعقدة أنقرة أولاً إلى إقناع العواصم الغربية التي لا تخفي عدم ارتياحها من التداخل الكبير بين «النصرة» و«القاعدة» وأمثالها مع مراكز القرار التركي. كما لم تتردد أنقرة في إرسال الوزير أحمد داود أوغلو إلى جدة لإقناع الطرف السعودي بتطابق المخططات التركية _ السعودية، طالما أنّ الهدف واحد وهو إسقاط النظام «الأسدي العلوي»، وبالتالي وضع خطط مشتركة ضد لبنان والعراق، ولاحقاً إيران، وهي جميعاً دول مجاورة لتركيا.
وتعكس تصريحات داود أوغلو فور عودته من جدة، مساء أمس، كل المخططات النظرية والعملية للحكومة التركية، حيث ناشد الشعب التركي لأن يكون مستعداً للمرحلة المقبلة، التي وصفها بالمصيرية بالنسبة إلى الأمة والدولة التركية لأنها ستحمل في طياتها بلقنة الشرق الأوسط. وقال عنها إنّها ستكون لمصلحة تركيا إن كان التعامل معها سليماً. وبات واضحاً من هذه التصريحات أنّ قيادات «العدالة والتنمية» في أنقرة، والتي خسرت جولتها الإقليمية الأولى بسقوط محمد مرسي، تسعى الى تحقيق انتصارها العاجل بإسقاط الأسد، وهي ستسعى من أجل ذلك بكل الوسائل المعروفة وغير المعروفة. ولهذا استعدت لكل المفاجآت السياسية والعسكرية، وتسعى لأن تكون صاحبة القرار فيها عبر الإعلان عن استعدادها لأيّ دور عسكري في سوريا.