سوريا اليوم، وبعد الكارثة التي عاشتها في 21 آب، موضع اهتمام العالم بأجمعه لاعتبارها تقف في هذه اللحظة على حافة منعطف قد يغير التركيبة الجيوسياسية إقليمياً وعالمياً. وأمام التهديدات التي تلوّح بها الولايات المتحدة والدول الأوروبية شاهرة سيف التدخل الخارجي لحسم المعارك، سارعت روسيا بمشاورة الدول الكبرى التي تمسك خيوط المعركة في المنطقة. وفي هذا الإطار أجرى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في غضون يوم واحد، هو يوم الجمعة الماضي، سلسلة من الاتصالات الرسمية، مع نظيره الأميركي بالطبع ونظرائه الإيطالي والفرنسي والبريطاني والألماني، كما مع المفوضة العليا للشؤون الخارجية والأمنية في الاتحاد الأوروبي كاثرين آشتون لبحث الوضع السوري.
لم تكشف تفاصيل هذه المحادثات، واكتفى الإعلام بتغطيتها كحدث رسمي تناول وبحث ودقق. إلا أن الواضح أن روسيا بعد أن طلبت من سوريا التعاون مع لجنة الأمم المتحدة للتحقيق في مسألة السلاح الكيمائي، سارعت لتنسق الخطوات المقبلة مع الدول الأخرى المعنية بتطور الأحداث في المنطقة لأنها تعرف أن الأمر إذا ما كان حقيقة فسيجرّ المنطقة إلى نيران مستعرة، وإذا ما كان ذريعة فالنتيجة هي نفسها.
لا يخفى أن روسيا آخر ما قد تسمح به هو التدخل العسكري في سوريا من طريق مجلس الأمن حسب ما كرره مراراً مندوب روسيا لدى الأمم المتحدة فيتالي تشوركين. وكان لافروف قد أكد عام 2012 خلال اجتماع لمجلس الأمن الدولي خاص بالأزمة السورية أن «مجلس الأمن الدولي لن يسمح أبداً بأي تدخل عسكري في شؤون سورية».
وكرر لافروف تأكيده في مؤتمر صحافي عقده في موسكو في شباط 2013 هذا الموقف، معلناً أنّ «روسيا لن تسمح باستخدام القوة العسكرية لإسقاط نظام الرئيس السوري، بشار الأسد».
كانت روسيا قد بدت في الآونة الأخيرة راضية عن موقفها إلى حد ما على الصعيد الدولي، وخاصة أنّ رصيدها شهد الكثير من الإشادة والاعتراف بشأن موقفها من الأزمة السورية وبشأن حديثها عن الإرهاب. فبعدما كانت روسيا من سنتين الطرف المغضوب عليه دولياً لأنه يحاول قمع «ثورة الديموقراطية والحرية» في سوريا، أصبحت اليوم بعد تغلغل الكثير من العناصر الإسلامية المقاتلة على الأراضي السورية من مرتزقة وسوريين، وبروزها إعلامياً، أقرب إلى الجانب السليم من التاريخ.
وإذا ما نفذت الولايات المتحدة تهديدها، وأطلقت حملة تدخل عسكرية في سوريا، ستكون روسيا أمام خيارين: إما الوقوف جانباً وانتظار ما ستؤول إليه الحملة، وهذا ما حدث في ليبيا، وإما الحل الآخر، وهو مواجهة القوى المتدخلة. ويبقى السؤال هو كيف؟
على ما يبدو، لم تكشف سلسلة المحادثات التي أجراها لافروف يوم الجمعة عن إجماع على التهدئة وانتظار ما ستسفر عنه تحقيقات لجنة الأمم المتحدة؛ إذ ورد أمس على مدونة أليكسي بوشكوف، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في الدوما (مجلس النواب الروسي)، أن «الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا سترفضان أي تقرير لمفتشي الأمم المتحدة الموجودين في سوريا حالياً لا يوفر الذريعة لضرب دمشق، أي إنهما لن تقبلا إلا تقريراً يتهم الرئيس السوري بشار الأسد بشن الهجوم «الكيميائي» في ريف دمشق يوم الأربعاء».
بغض النظر عن صحة الاندفاع الأميركي في التدخل وحسم دفة المعركة، إذا ما نجحت في ذلك، تبقى مشاركتها العسكرية في الصراع السوري عبر طريقة واحدة هي أشبه بما قامت به في كوسوفو في أواخر تسعينيات القرن الماضي. فروسيا لن تسمح على الأرجح بإمرار قرار تدخل أجنبي في سوريا عبر مجلس الأمن الدولي، وتبقى هي والصين الدرع الصلب الذي لن ينسحب عن قراره. وعلى خلفية هذا الإصرار سيكون امام الولايات المتحدة مخرج واحد هو «الأطلسي».
ففي عام 1999، سدد حلف شماليّ الأطلسي ضربات استهدفت جنوداً صرباً في كوسوفو لاعتباره أن التدخل لا بد منه لحاجات انسانية. وبحجة الحالة الطارئة الانسانية استمرت هجمات الاطلسي 78 يوماً.
وروسيا اليوم، كما روسيا وقتها، لن تسمح باللجوء إلى الحل العسكري في سوريا، وتصر على الدور السياسي ودور الحوار في معالجة هذه الأزمة. ومن الأدلة على هذا الموقف على سبيل المثال، إعلان الناطق الرسمي بلسان الخارجية الروسية ألكسندر لوكاشيفيتش الذي سارع بالقول فور وقوع كارثة الغوطة الشرقية: «الحملة الإعلامية بهذا الخصوص تهدف إلى إحباط عقد مؤتمر «جنيف -2» حول التسوية السلمية للأزمة السورية، الذي من المقرر أن يعقد اجتماع يوم 28 أغسطس الجاري للخبراء الروس والأميركيين للتحضير».
وروسيا هي أحد المبادرين الرئيسيين لهذا المؤتمر الذي حسب تصورها سيجمع حضارياً أطراف النزاع حول طاولة واحدة.
إلا أن لهجة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال مؤتمر صحافي عقده أمس بدت مشككة من المثالية التي تحيط بالمؤتمر، موجهاً سهام الاتهام إلى المعارضة السورية التي حسب قوله «تشترط حضورها إلى المؤتمر وتفرض شروطاً مسبقة لمشاركتها».
على هذا المستوى، تبقى روسيا في واجهة الحدث السياسي، محاولة ابعاد كل راغب غربي عن الميداني.
الرد الروسي كان أمس على لسان لافروف واضحاً: «روسيا لا تنوي إعلان الحرب على أي كان من أجل سوريا».
يرى البعض في هذا التصريح تخلياً عن موقع المدافع عن سوريا، أو تخلياً روسياً عن تطورات المنطقة. لكنّ في هذا التصريح جزءاً من الواقع، أوضحه لافروف باستعادته أمثلة كوسوفو، والعراق وليبيا عندما لم تدخل روسيا في مواجهة فعلية على الأرض رغم اعتراضها.
روسيا لن تدخل مباشرة في حرب مع الناتو على الأراضي السوري؛ فهي ليست بحاجة إلى هذه التكلفة البشرية والمادية، ولكن ألا يبقى هناك من احتمال بسيط لمشاركتها غير المباشرة في حال وقوع تدخل أجنبي في سوريا؟
تشير مصادر غربية عدة إلى أن روسيا سلمت جزءاً من «اس 300» لسوريا، وأنها لا تزال تمد النظام بالسلاح، وإذا منعتها حالة الحرب من ذلك ألا يمنكها اختصار الطريق عبر وسيط آخر؟
رغم ما يقال على المنابر الدبلوماسية، سوريا ليست ليبيا بالنسبة إلى روسيا، وموسكو مستعدة للدفاع حتى اللحظة سياسياً عن مواقفها في هذا البلد الشرق أوسطي، ولكنها لا تزال تتحفظ عما يمكنها أن تقدمه في سبيل هذا البلد.