أهلاً بكم أيها المستمعون الأعزاء. أنتم الآن على إذاعة «صوت الأمن». أنا «آمر فصيلة». معنا الآن اتصال من «مواطن»: «آلو. تفضل. مهلاً، تقول إن حاجزاً مسلحاً يوقف المواطنين قرب محل الحلويات ويدقق في هوياتهم؟ هناك خمسة آلاف مسلح في طرابلس. لا يمكننا أن نفعل شيئاً. تسألني ماذا يمكنك أن تفعل؟ افعل ما يحلو لك». انتهى الاتصال. السيناريو حصل فعلاً. سمعناه جميعاً.
جميعنا نعرف أن مثل هذا واقعي جداً.
ولكن حدوثه يبقى مضحكاً. سيقول البعض إنه مبك أيضاً، غير أن اللبنانيين بلا شك يميلون إلى الضحك على كل شيء. لم يقل أحد لهم معنى الألم الفطري. لم يقل لهم أحد معنى «الدولة» الحديثة التي يتحدث الجميع عنها ولا تعريف لها إلا في الاتصال من المواطن الطرابلسي إلى إحدى مفارز قوى الأمن في المدينة. أراد الرجل أن يتأكد بنفسه، أن يثبت لنفسه ما لا يريد تصديقه. وهذا الرجل يستحق التحية. أعاد الأمور إلى نصابها: إلى الغابة. أخبره رجل الأمن بوضوح أن «يفعل ما يشاء مع المسلحين الذين يقيمون حاجزاً». هكذا يحارب «الإرهاب». وهكذا تنسق «الأجهزة الأمنية». وفي تلك المنطقة بالذات، رفعت صور أمنيين، تلهّوا بتهيئة الظروف النفسية المناسبة لخمسة الآف مسلح (العدد وفقاً للدركي معدم الحال)، وتركوا المدينة للإرهاب. ألا يعرف المتصل أن هناك خمسة آلاف مسلح في طرابلس. ما هذه الوقاحة؟ لكن صاحب الأمل المتصل يستحق تحية مضاعفة. فسّر لجميع المواطنين أن الأمل نوعان. أمل في مكانه الصائب، وهذا ليس في حواجز الهامشيين على المحاور، وأمل تافه، في دولةٍ لطالما كانت قالب جبنة ضخماً ذهبت حصة كبيرة من الأمن فيه إلى «اللواء» النظيف. بعد هذا الاتصال، من سيتصل بقوى الأمن التي لم تصدر توضيحاً حتى.
التوضيح لا يكون بمعاقبة الدركي. من غير المنطقي أن يعاقب الرجل الذي لا حول له ولا قوة. النواب والوزراء ومن هم أعلى منهم (فخرياً طبعاً) يتحدثون بلغة مشابهة. باللبناني أيضاً، من حق رجل الأمن أن يعلن بصراحة: «شو وقفت عليّي». الرجل قال ما كان يجب أن يسمعه الجميع. كان يبتلع أنفاسه كأنه وقع في كمين كان ينتظره، أو ربما اعتاد عليه. ربما لا يكون هذا الاتصال الأول، وهذا ليس المواطن الأول ولا الدركي الأول. لا أحد يمكنه أن يعلم، حتى «داتا الاتصالات». قد تكون صدرت مناشدات كثيرة ذابت في خطوط الهاتف. إنها المحاولات البائسة الأخيرة التي تسبق الفوضى العارمة. المؤشرات الضرورية للتأكد من اضمحلال «الدولة» وانتقال الأمر إلى الزعران، تحت مسميات أيديولوجية وغرائز طائفية ساذجة، تماماً كما في 1975. والدركي لا حول له ولا قوة. الفوضى ليست خياراً طوعياً بادر الرجل إلى التسليم به. قد يوقفونه على حاجز هو الآخر. وقد يضربونه. إنهم «الذين يدافعون عن المدينة». يدافعون عنها ضد «الجيش»(!) وضد «الدولة» التي يريد المتحدثون باسمهم قيامها. وحال الدركي في طرابلس ليست أفضل من حاله في الضاحية. وحال المدينتين من بعضهما. انفجار هنا وانفجار هناك. دركي مسكين هنا وآخر هناك. ونحن كمستمعين، كمتفرجين دائمين، لا يسعنا سوى قذف العواطف. الدركي ليس «كبش محرقة». إنه في طرابلس، وهذا يعني تحديداً، أن «اللواء» المستقيل من «الدولة» قبل كل هذه الأحداث أصلاً، تركه وحده، صحبة بعض العناصر، في مواجهة «الزعران». حسب تقدير الدركي، إنهم خمسة آلاف أزعر. ولكن من يعلم قد يكون الرقم أكثر بكثير، وربما يكون أقل بكثير، لا يغيّر هذا شيئاً في قوتهم. إنهم الدولة. ذات يوم، تحول رئيس الحكومة إلى سائق لطيف عند أحد هؤلاء القادة الميامين. وفي يوم آخر تدخل آخرون من الشانزليزيه (حيث لا أمن ذاتي ولا علوكي ولا من يعلكون) لإخراج أشاوس آخرين. ولا ننسى طبعاً المؤتمر الصحافي، للمدير المثير للجدل، على رأس هذه المؤسسة، في الفترة الصعبة، حين سوّغ وجود المقاتلين. ما ذنب الدركي إذا كان رئيسه على هذا النحو. الدركي واقعي. لقد أخذ «اللواء» الأمن معه من «ثكنة المقر العام» إلى محاور طرابلس، وأنشأ قطعات بديلة: مقاتلون شجعان بأقنعة قميئة وقامات مستنسخة من 1975. فلنعتبر هذا شرحاً ممكناً لصورة «الزعران». كل هذا، والإرهاب، نعم الإرهاب، يضرب الضاحية، ويضرب طرابلس، في بلدٍ يتصارع أهله على الهواء ولا يجدونه. كيف يجدون «الدولة» إذا كان الحاجز المسلح أمام محل الحلويات كما يقول الرجل في التسجيل الصوتي طبيعياً. يبدو هذا رتيباً، وخاصةً أن كثيرين سيسألون: والضاحية؟ على الأرجح، إذا اتصل مواطن في الضاحية، بإحدى المفارز الأمنية القليلة فيها، سيسمع الجواب نفسه. ولكن في طرابس، ثمة إضافة أخاذة وحيدة. فبالفعل، لا يمكننا أن نفهم إذا كان الدركي، الواقعي إلى أقصى درجة، هو أحد هؤلاء الذين قصدهم قائد قوى الأمن الداخلي السابق، «اللواء» الشهير بجملته الذكوريّة الشهيرة: «لن نلبس التنانير». ما نعرفه أن السراويل الطويلة بدأت تفعل فعلها.