طرابلس ضحية مصيبتين: مصيبة الانفجارين، ومصيبة الإهمال. الأبرياء هم ضحايا المصيبتين، مرّة قتلتهم متفجرتان زرعتهما يد الإرهاب أمام مسجدي التقوى والسلام، ومرّة زرعتها الدولة فأوقعت الكثير من سكان المدينة تحت خطوط الفقر. صوت الإهمال الرسمي كان صارخاً في المدينة ظهر الجمعة الماضي. سيارات الإسعاف صمتت. الإطفاء كان مصاباً بحال جفاف. التحقيقات الميدانية السريعة والضرورية مؤجلة إلى حين... كلهم كانوا في كبوة. ليست كبوة فارس، بل كبوة الإهمال. هي جريمة لا توصيف ثانياً لها.
ثمة الكثير من المعطيات عن فقر أحوال عاصمة الشمال. الفقر يجتاح 80% من عدد سكان المدينة المقدّر عددهم بنحو 500 ألف. أما أولئك الذين توصف أوضاعهم بالفقر الشديد، فيمثّلون نحو 23%.
في رأي الباحث الاجتماعي أديب نعمة، طرابلس «مدينة يسكنها الفقراء والفئات الشعبية، وإن كان فيها بعض جيوب الرخاء النسبي، حيث تسكن فئات من الطبقات المتوسطة والميسورة التي لا تمثّل أكثر من 20% من سكان المدينة، فيما 80% منهم هم فقراء وفئات شعبية». ثمة إجماع على هذا التوصيف. ففي عام 2012 أنجزت مؤسسة البحوث والاستشارات دراسة ميدانية عن المدينة لمصلحة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وقد خلصت إلى أن «نسبة فقر الدخل في طرابلس تبلغ 51%»، على ما يقول نعمة. يستند هذا الرقم إلى خطّ الفقر الأدنى المحدّد بنحو 3.8 دولارات.
ويشير نعمة إلى أن نسبة الأسر المحرومة في المدينة الشمالية بلغت 40%. أما نسبة الفقر المعبّر عنها بنسبة الأسر المؤهلة للإفادة من برنامج استهداف الأسر الفقيرة الذي تنفذه وزارة الشؤون الاجتماعية بدعم من البنك الدولي، وهو يعبّر أيضاً عن الفقر الشديد الذي يجعل الأسرة مستحقة للمساعدة الاجتماعية، فتبلغ 23%.
إذاً، أكثر من ثلثي سكان طرابلس يعيشون تحت خط الفقر. وبحسب الدراسة نفسها، إن فئات الفقراء تتوزّع على أربع مجموعات أحياء كثيفة السكان. هذه المناطق تقع شمال نهر أبو علي، وتضاف إليها المدينة القديمة. لكن الوضع ليس أفضل حالاً في مناطق الميناء والزاهرية والتل؛ إذ يشير نعمة إلى أن مناطق الفقر توسعت عام 2012 مقارنة بما كانت عليه قبل 10 سنوات.
هناك الكثير من المعطيات التي تتحدّث عن وجود إهمال رسمي لمحافظة شمال لبنان عموماً، ولمدينة طرابلس خصوصاً. هذه المدينة التي تحتضن معرض رشيد كرامي الدولي ومرفأ طرابلس ومصفاة للنفط، لم يكتب لها النهوض بسبب تهميشها. بعض المؤشرات قد تكون كافية لرسم صورة للمشهد الطرابلسي. استناداً إلى الإحصاء المركزي، يبلغ معدل عدد أفراد الأسرة في شمال لبنان 4.7، وهذا يعني أن عدد الأسر في المدينة يقدّر بنحو 100 ألف. أما بالنسبة إلى معدلات الدخل، فيمكن استقاؤها من معدلات الدخل الوسطي للأسرة الشمالية. هذا المعدل كان يبلغ 880 ألف ليرة في عام 2007، لكنه بلغ اليوم بعد الزيادات الأخيرة على الأجر خلال عامي 2008 و2013، نحو 1.38 مليون ليرة. نعم كل أفراد الأسرة في شمال لبنان يعملون لجمع هذا المبلغ.
الإهمال ليس إلا سمة عامة في طرابلس. فبحسب دراسة مؤسسة البحوث والاستشارات، إن 73% من الأسر ليس لديها أي نوع من التغطية الصحية. وتبلغ هذه النسبة أقصى مستوى لها في مناطق مثل التبانة، حيث تقدّر بنحو 90%، وفي أبو سمرا حيث تقدّر بنحو 83%، والقبة ــ جبل محسن بنحو 82%. وفي مناطق معيّنة تصل هذه النسبة إلى 46% و47% مثل بساتين طرابلس والميناء.
هذه النسبة تكشف أيضاً عن أنوع النشاط الاقتصادي في المدينة ومدى ارتباطه بوجود مؤسسات الدولة ومدى رعاية الدولة للمدينة. فإذا كانت نسبة التغطية الصحية متدنية، فهذا يعني أن نسبة مهمة من النشاط الاقتصادي هي خارج نطاق القطاع النظامي وتعمل ضمن ما يسمّى «المناطق الرمادية» التي لا تصرّح عن أعمالها للدولة. تشتهر طرابلس بكونها مدينة لبعض أصناف الحلويات، نظراً إلى اندماج بعض العائلات في أعمال من هذا النوع. لكن مرافقها الاقتصادية منتشرة ومتنوعة من الأسواق الشعبية التقليدية التي يتوسطها جامع وتتفرع منه أحياء عديدة، إلى الأسواق الجديدة التي خصّصت للطبقة المتوسطة والأعلى منها، أي تلك التي تمثّل نحو 20% من السكان وكل الأعداد التي يمكن استقطابها من خارج المدينة. المعروف أن هناك ثلاثة أسواق «حديثة» في شوارع عزمي وقاديشا ونديم الجسر. في هذه الشوارع تباع الماركات «الفاخرة» من الأحذية والألبسة وأدوات التجميل وسواها. كذلك كانت طرابلس تعرف بأنها مركز صناعي مهم للأثاث المنزلي، وهي محور العمل الحرفي في هذا المجال... لكن هؤلاء اشتكوا مرّة لدى وزارة الاقتصاد طالبين منها حمايتهم بسبب منافسة البضائع المماثلة التي تستورد من الصين وإندونيسا لمنتجاتهم، فلم يلقوا آذاناً صاغية.
النسيج الاجتماعي ــ الاقتصادي لمدينة طرابلس هو مختلف عن أيٍّ من أنسجة المدن الساحلية للبنان. المدينة الشمالية يمكنها أن تحتضن أي وافد إليها من المناطق مهما كان فقيراً أو ثرياً. الكل يمكنه العيش هناك بالمستوى نفسه الذي يعيشه السكان الحاليون. بنتيجة هذا المستوى من المعيشة، أفاد 52% من الأسر المقيمة في طرابس بأن أحد أفراد الأسرة مرض خلال الأشهر الستة الأخيرة ولم يتلق علاجاً أو لم يكمل العلاج المحدد.
في محيط منطقتي التفجيرين، أي في محيط جامع التقوى وجامع السلام، هناك مئات المقاهي والبسطات. في واقع الحال، إن محيط جامع التقوى يقع ضمن المناطق المحرومة أو المناطق الشعبية حيث تنتشر بسطات الألبسة والمقاهي الرخيصة وجميع أنواع التجارة الشعبية. أما في محيط جامع السلام، فهناك الكثير من المقاهي والمطاعم التي ترتادها الطبقات غير الفقيرة. كل فرص العمل بدأت تصبح مهدّدة اليوم، وأصحاب المحال التجارية، سواء تلك الشعبية أو لذوي طبقة أعلى، عليها أن تنهض من جديد في مدينة «أم الفقراء».
ثمة الكثير مما يقال عن طرابلس وأحوال أهلها. هناك، نسبة الأمية ترتفع إلى 11%، ونسبة الجامعيين تقتصر على 7%.
وفي الجانب المالي، يكشف عدد آلات الصرافة عن مشهد مختلف من مستوى معيشة أهل المدينة. ففيما تستحوذ بيروت على 616 آلة صرافة، وجبل لبنان على 420 آلة صرافة، فإن كل محافظة الشمال فيها 140 آلة صرافة. أما نسبة الودائع في كل الفروع المصرفية الشمالية فتبلغ 6.1%، أي ما يعادل 7.7 مليارات دولار فقط. وفي المقابل إن مجمل التسليفات التي تقدّمها هذه الفروع لا تتجاوز قيمته 1.6 مليار دولار أو ما نسبته 3.83% من التسليفات الإجمالية الممنوحة للقطاع الخاص.
أبرز مؤشر اجتماعي في طرابلس، هو أن 11% من الأسر المقيمة في المدينة صرّحت بأنها تحصل على مساعدات من أحد الزعماء السياسيين. إذاً، الإهمال مرادف للتبعية السياسية، إنها سياسة زعماء الطوائف في لبنان.