أشياء تحصل لوحدها. لا تحتاج الى من يحضّر لها أو يعدّها. هكذا حصل أمس. الفوضى التي رافقت عمليات الإنقاذ في مكان الجريمة الإرهابية، في طرابلس، لم تلغ اهتمامات الناس وأوساط سياسية بأنواع ردود الفعل. البعض اهتم بما إذا كان قادة 14 آذار سيتهمون حزب الله بالوقوف خلف الجريمة. لم يهتم أحد لاتهام هؤلاء النظام السوري. هذا كلام عام لا يقدم ولا يؤخر. لكن اتهام حزب الله له معان كثيرة. وما قاله بوقاحة خالد ضاهر لا ينمّ عن جهل فقط، ولا عن تجاهل الرغبة المنطقية في منع تمدد بقع الدماء، بل ينمّ عن عقل مخرب، عن عقل يبدو مزهواً باندلاع الموت الطائفي من جديد.
لكن بقية الذين يمكن اعتبارهم ناطقين باسم الناس أو باسم قوى سياسية ذات تمثيل وازن، هؤلاء صدّتهم مشاهد الموت المجنون. قالوا كلاماً سياسياً هدفه القول بأن لا مراجعة حصلت. لكن، يمكن أن يقال إنها المرة الأولى التي يتجنب فيها مسؤولون حقيقيون في تيار المستقبل الاتهام المباشر الواضح والصافي لجهة لبنانية بالوقوف خلف الانفجار. بل أكثر من ذلك، إنها المرة الأولى التي يذهب فيها أمنيون، على صلة لصيقة بهذا التيار، الى حدود الفرضيات الواسعة. بمعنى أن التحقيقات يجب (شددوا على كلمة يجب) أن تدرس كل الاحتمالات، بما فيها احتمال أن تلجأ مجموعات تكفيرية الى القيام بهذا العمل المجنون لأهداف تتجاوز المواجهة السياسية الداخلية.
من جانب آخر، يبدو أن الناس كانوا يهتمون لأمور أخرى مثل رصد مواقع التواصل الاجتماعي وتعليقات المواطنين، وثمة خبثاء فتشوا طوال أمس عن عبارات تشفّ وشماتة صادرة عن أناس من جمهور حزب الله وقوى 8 آذار. لم يحصل هؤلاء على مرادهم كما كانوا يأملون. هذا لا يعني أن السكينة حلّت على قلوب جميع المؤيدين لـ 8 آذار. لكن دماء شهداء الضاحية الجنوبية لم تجف بعد. ولا يزال الأهالي يشيّعون من تجمّعت أشلاؤه أو من لم تثبت هويته. وهذا ما فتح الباب أمام كلام يبدو، للوهلة الأولى، مصدر أمل لمن يرغب في السلام للناس، وإذا ما ثبت أنه حقيقي، فسيشكل مصدر قلق لمن يقود الإرهاب الأعمى في كل لبنان. وهو الكلام عن أن منفذي تفجيرات طرابلس هم إخوة العقل والقلب والانتماء لمنفذي تفجيرات الضاحية الجنوبية، ولمن يستعد لتفجيرات أخرى في مناطق أخرى أيضاً.
جانب من المشكلة أن أحداً لم يعد أمس الى تصريحات قائد الجيش العماد جان قهوجي قبل أيام، عن أن الاستخبارات العسكرية تلاحق منذ مدة خلايا إرهابية، تنوي القيام بتفجيرات في مناطق متنوعة الانتماء الطائفي والمذهبي والسياسي بقصد إشعال فتنة أهلية دموية. واستمرار تجاهل هذا الكلام يعني استمرار سفك الدماء، لأن الإجراءات المفترض القيام بها اليوم وليس غداً، ليس فقط العمل على تعقب القتلة ومعاقبتهم، أو العمل على ردعهم إذا أمكن، بل العمل على تعطيل المحفز الرئيسي لهؤلاء القتلة، وهو عنصر التحريض والتهييج الطائفي والوطني القائم بين أطراف النزاع في لبنان، وهو عنصر له أهمية كبيرة جداً، وربما أكبر من العثور على مخازن لأدوات الموت من صواريخ ومتفجرات، علماً بأن على القوى الأمنية أن تضع أمامها هدف توقيف أو قتل أو تفجير كل تجار الأسلحة في لبنان، ومن أي جنسية كانوا وإلى أي طائفة انتموا، وهؤلاء أشد فتكاً بالناس من كل تجار المخدرات والأطعمة الفاسدة، وهؤلاء لا يجرؤ أحد في لبنان على مساعدتهم إذا وقعوا في الفخ أو تعرضوا للإيذاء، بل سيكون الجمهور شاكراً لكل من يتخلص من هذه الفئة التي تبيع الموت ليل نهار.
لكن، هل الكلام المعسول يفيد في لحظة الحقيقة؟
يمكن أن يفيد في حالة اتخاذ الناس قراراً بالضغط على كل القوى السياسية لمنع تحويل الصراع السياسي الى صراع دموي، وبطريقة واقعية لا تحتمل الشعارات الرنانة. وبكل صراحة، فإن أي ربط لمصير سلاح الموت، المنتشر في الأزقة، بسلاح المقاومة يعني عدم وجود رغبة في معالجة هذه المشكلة الكبيرة.
أمس، عاشت طرابلس يوماً دموياً حصد العشرات من الضحايا. مقصلة أمس لا تشبه من حيث وحشيّتها كل هبل وخفة وحتى عمالة زعران الأحياء. من وضع السيارات على أبواب مساجد وفجّرها في لحظة تجمّع المصلين أو خروجهم، إنما استهدف القتل العشوائي والمكثف، وهو عمل من اختصاص التكفيريين على اختلاف صنوفهم!