طرابلس مثل الضاحية الجنوبية لبيروت تماماً. لا مكان لـ«دولة الاطفائية» هناك. بعد الانفجارين في طرابلس، أمس، اضطر بعض الناس بدافع النخوة إلى طلب سيارة دفن الموتى، بهدف نقل الجرحى إلى المستشفيات، في ظل «عدم توفر ما يكفي من سيارات الإسعاف». الكلام لعضو بلدية طرابلس، جلال حلواني، الذي كان يجول أمس بين موقعي الانفجارين و«لا يُصدّق ما تراه عيناه».
لا يوجد لدى البلدية سوى سيارة إسعاف واحدة! ليس جديداً الحديث عن غياب الدولة عن طرابلس، إنمائياً قبل أي عنوان آخر، ولكن «أن تغيب الدولة عن هذه المدينة في الكوارث، بعد الانفجارات القاتلة، فهذه قمة البؤس وحرقة القلب». يضيف حلواني: «غاب الجيش تماماً عن موقعي الانفجارين، بعد إشكال بينه وبين بعض الغاضبين الذين شتموه، كما لم أر أي وجود لقوى الأمن الداخلي... وجدنا أنفسنا وحدنا، وراح الناس يستخدمون وسائل الإطفاء والإغاثة البدائية، وحلّت فوضى عارمة مع عدم وجود جهة ضابطة لتنظيم أعمال الإغاثة». عندما غابت الدولة بثيابها المرقطة، حلّ مكانها المسلحون، الذين كانوا يديرون كل شيء ومعهم بعض الناس. ماذا يعرف هؤلاء عن أصول الإغاثة والمعايير العالمية في هذا المجال؟
المشهد بات تقليدياً في لبنان. في لحظات الكوارث، ترى الجميع يعملون وفق اجتهاداتهم الشخصية، بشكل عفوي وفوضوي، إذ لا مركزية قرار تُنظّم حركة العاملين ودور كل جهة. يوم أمس، بعد نحو 4 ساعات على الانفجارين، كان أحد الفتيان يقف في المكان الذي انفجرت فيه السيارة، راح يدسّ عصا يحملها في الحفرة التي خلّفها الانفجار وامتلأت بالماء. كثيرون مثله كانوا «يعبثون» بمسرح الجريمة. لم يخرج من القوى الأمنية المعنية من يغلق ذاك المسرح عن المتطفلين، فكان بإمكان أي كان أن ينقل أو يضع ما يريد.
الأسبوع الماضي، في انفجار الرويس في الضاحية، احتاجت المياه لتصل من العاصمة إلى مكان الانفجار الى نحو ساعة ونصف ساعة. لا وجود لخزانات المياه الخاصة بأعمال الإطفاء. الأمر عينه حصل أمس في طرابلس. لا خزانات مياه هناك، فضلاً عن أن البلدية «لا تملك سوى آليتين للتحرّك فقط، واحدة كبيرة وأخرى صغيرة، ما لدينا أصلاً لم تقدمه الدولة اللبنانية، بل هو هبة من اليابان». إذاً، لولا طوكيو لما كان لدى طرابلس آليات لأعمال الإغاثة أصلاً. من كان قريباً من موقعي الانفجار في طرابلس، رأى كيف أن الجثث والجرحى كانوا ينقلون على الدراجات النارية إلى المستشفيات.
يلفت حلواني إلى أن «اتحاد بلديات الفيحاء» كان قد بادر للانضمام إلى مشروع «إدارة الكوارث» التابع للأمم المتحدة، قبل 3 سنوات، تحديداً لإنشاء جهاز إطفاء وإغاثة متكامل، لكن «هذا المشروع لم يبصر النور لأسباب سياسية، ففي ظل غياب الحكومات لا يمكن السير بأي مشروع». هكذا، أظهر ما حصل في طرابلس، أمس، مرّة جديدة، كذب وعود الإنماء والرعاية التي لطالما أغدقت على المدينة. الكلام يُساق على كل مناطق الأطراف، وعلى الكذبة الشهيرة المعروفة بـ «الإنماء المتوازن». آخر حكومة كانت برئاسة نجيب ميقاتي، وهو ابن طرابلس، مع عدد من الوزراء من أبناء المدينة لم تشهده أي وزارة في السابق، ومع ذلك لم يحصل ما يعتدّ به لتحسين حياة الناس هناك. خلال السنوات الأخيرة، كانت الحكومة تتحدث فقط، من حين إلى آخر، عن التعويضات لمنطقتي باب التبانة وجبل محسن، وذلك بعد كل جولة عنف بين المنطقتين. ليس الكلام الآن عن طلب رفاهيات وكماليات، بل عن أدوات «تحمي حياة الناس، فإن كان لا يمكن منع الانفجارات، فهل يعقل أن لا يكون لدينا ما يمنع تسهيل الإغاثة ومعالجة الجرحى، الذين يفارق بعضهم الحياة نتيجة التأخير في تقديم المساعدة إليه؟». يحلو لحلواني أن يختم قائلاً: «ليس لدينا جهاز دفاع مدني حقيقي، الدولة غائبة تماماً هنا... طرابلس متروكة لقدرها».