لا شيء أجمل من تلك الشجرة الزهرية التي وقفت في المكان نفسه الذي انفجرت فيه الحياة في منطقة الرويس. ترى، كيف تكون تلك الشجرة في الليل؟ عندما تضاء أغصانها الزهرية؟ هناك، في الشارع المنفجر بناسه، الكل يتحدث عنها. نجاة، واحدة منهم. تلك الصبية، التي أضحت بلا بيت، والتي تلازم رصيف بيتها المقفل بحواجز الحديد، صارت تسهر بالقرب منها. تلك «الآلة الكهربائية العجيبة» التي كلما أضاءت، استحالت، تحت جذعها، شظايا الزجاج، قطعاً من الماس. هذه، التي تستحيل في الليل ماساً، تعود في النهار شظايا انغرزت قبل حين في قلوب كثيرين. تلك التي مات بسببها «جيران العمر» وعطبت حياة آخرين.
هناك، في الحي الذي يستعيد حياته شيئاً فشيئاً، ولو بألوان الشجر الاصطناعي والآخر الطبيعي الذي لم يخف ثقل السواد، صار الزجاج شيئاً قاتلاً. تدوسه في الزوايا التي لم تصلها أيدي عمال النظافة وفي البيوت المبقورة أحشاؤها، كأنك تدوس أشلاءَ الذين لن يعودوا أبداً. فكلما «فرقعت» تحت القدم زجاجة «ينكسر شيء في قلبي»، تقول نجاة منيمنة، الشابة المهجرة من بيتها في المبنى المسمى باسم «محفوظ ستورز».
أمس، كانت نجاة بالقرب من الشجرة تستكمل ليلها. تنتظر عمال مؤسسة جهاد البناء ريثما يأذنون لها بالدخول إلى بيتها. هي المرة الثالثة التي تتفقد بيتها، وفي كل مرة تشعر «وكأنها المرة الأولى»، وإن كانت قد اعتادت الثقب الكبير في حائط غرفتها. مرت ساعات طويلة قبل أن تحصل على الكلمة التي ستسمح لها بالعودة، ولو قليلاً إلى البيت المقلوب رأساً على عقب. وعندما سمحوا لها، طلبت أن تصعد برفقة أحدهم. كانت تريد ذلك الحضور لتخبر. صعدت درج بيتها بتأنٍّ. وفي كل درجة، كانت تروي نتفاً من الحكاية التي لم تنته. وصلت آخر درجة، لكن الحكاية لم تنته. هنا، عند الباب الذي طار من شدة الانفجار، يمكن أن تنسج حكايات عن غرف تبعثرت بقاياها. ثمة شيء يشبه الحرب التي مرّت على الضاحية قبل سبعة أعوام. هو الشيء الذي يذكره الكثيرون. عن بقايا البيوت التي نبشت في الشوارع. عن الثياب والصور والأغراض التي لا تعني إلا هؤلاء الذين فجعوا بها. ما حصل قبل تلك السنوات يستعاد اليوم تماماً. يمكن أي شخص عاش تلك اللحظة قبلاً أن يتذكرها. بيت نجاة واحد من تلك البيوت التي تستعيد ذاكرة الحرب. في غرفتها التي لم يعد يعرف فيها اتجاه السرير المقلوب في وسطها، يمكن أيّاً كان أن يرى تفاصيل حياة الشابة المكشوفة. تلك التفاصيل التي اختلطت بالزجاج الكثير. وفي غرفة شقيقها، سيرى الكثيرون علبة مسحوق الغسيل التي طارت من مكانها في الحمام المجاور.
عندما وقع الانفجار، كانت نجاة قد دخلت لتوها البيت ولم تكد تصل إلى شرفة غرفتها حتى صارت «وباب البيت حد بعض، طرنا». كانت وحيدة هناك. طارت من غرفة نومها إلى المدخل. لم تمت. بقيت حية، وهي التي لم تصدق إلى الآن أنها ما زالت كذلك. كحال كثيرين من الناجين. عندما هرعت إلى الشارع ورأت جارها الملطخ بدمه يعانقها للمرة الأخيرة وجثث آخرين تعرفهم تحترق أمام عينيها تمنت لو أنها ماتت، لأنها ستمر بعد موتهم وستجد أمكنتهم فارغة «ورح يكون ساعتها في شي غلط». ثمة دافع آخر للموت، هو «الشنططة من بيت لبيت، فبرغم انتقالي إلى بيت شقيقتي بانتظار ما ستقوم به مؤسسة جهاد البناء، إلا أنني لم أجد الراحة، ولهذا أبقى هنا أمام بيتي». هي اليوم «مشردة»، رغم وجودها في بيت. ولن ينتهي التشرد «إلا عندما أعود إلى بيتي». هذا، الذي على صغره، إلا أنه «الجنة التي طردت منها مغصوبة». ليست وحدها من تشعر بذلك. ثمة كثيرون وجدوا أنفسهم فجأة بلا أمان. البيت هو الأمان «ولكن، ليست كل البيوت هي بيتي»، تقول سمر موسى، السيدة التي كانت تقطن المبنى المتعفن من السواد. هذه السيدة، التي رأت بيتها يحترق على التلفزيون، لم تعد تجد نفسها إلا واقفة خلف السور الحديدي، وفي يدها «ورقة ملكية»، تتوسل بها الواقفين أمامها كي يسمحوا لها بالدخول إلى بيتها. تعرف أنها لن تجد شيئاً في البيت المتشح بسواده، ولكن على الأقل «بحس بوجودي».
تتذكر بأنها وقفت «مثل هذه الوقفة» قبل سبع سنوات. في حرب تموز، عندما وقفت خلف السور الحديدي نفسه وهي تتفرج على بيتها وقد صار ركاماً. اللحظة نفسها. لكن، ثمة ما تفتقده اليوم «هيدول الجيران اللي تحت». في حرب تموز، عادوا كلهم مع عودتها. أما اليوم، فلن يأتوا. ماتوا كلهم. تبكي عندما تتذكر بأنها ستعود «بلا الجيران».
الكل هناك، كانوا «حلوين». عصام الصراف وحسين الحلاق وموسى صاحب محل «بطاريات السيارات الأشهر» ووسام وعفيف. كلهم كانوا كذلك. لكن، لا مفر من الاعتياد. ثمة ناس اعتادوا التهجير والخروج والعودة بعد كل موت والفقدان أيضاً. ومع ذلك عادوا وأكملوا الحياة التي توقفت لفترة. فالموت «لا يهدد هؤلاء». تماماً كما تقول اللافتة التي علقها المفجوعون في ليل المذبحة.
مع ذلك، سيشعرون ببعض الغياب مع العودة النهائية. هذه، التي لا توقيت محدداً لها، فإلى الآن لم تنته عمليات المسح التي بدأتها فرق مؤسسة جهاد البناء في اليوم التالي للانفجار. ومن المفترض أن «تؤازرها» المؤسسة العليا للإغاثة التي تبدأ عملها اليوم. لكن، إلى الآن «لم يستقر العدد النهائي للمتضررين، وخصوصاً في ظل عمليات المسح التي لم تنته، وأيضاً لأن الأضرار لا تنحصر في الشارع المنفجر، فثمة أبنية متضررة على أطرافه»، يقول المهندس حسين خير الدين من المؤسسة. مع ذلك، ثمة تقديرات أن «هناك خمسة أبنية متضررة كلياً، وهذه تخلق مشكلة بالنسبة إلى ما قد يؤول بسكانها، وخصوصاً أن عملية الإعمار قد تستغرق وقتاً». ومصير هؤلاء؟ يقول خير الدين إنه إلى الآن «لم يؤخذ قرار نهائي في معالجة موضوع الإيواء بانتظار انتهاء الإحصاء، ومن المفترض أن تقوم الدولة بمساعدة هؤلاء الناس، وقد سرت أحاديث تتعلق بتعويض إيواء الآن».
إلى ذلك الوقت الذي ينتظره المهجرون، ثمة ما يبقي على الحزن في الحي المقفل على بيوته المحترقة. فالزحمة التي كانت تميز الشارع تتضاءل يوماً بعد آخر، باستثناء زحمة الكاميرات التي تحل في أوقات بثها المباشر وبعض الفضوليين الذين لم يسمعوا بقية الحكايا. أما المحال التجارية، فلم يفتح منها إلا محال الطعام الباقية فقط. وما عدا ذلك، لا شيء يشي بالحياة، إلا تلك العبارات التي علقت حديثاً على الجدران والتي تعد بالعودة «أجمل مما كان».