كنت هناك. أشلاء جثّة تدلّت من الأعلى. بقايا جثّة غطّت إعلان النراجيل عند باب محل. أشلاء أصغر التصقت على شجرة الرصيف. عليك أن تنظر بعين مفتوحة. لن يفيدك الانسياق العاطفي أو الاهتزاز في شيء. ما تراه حقيقي تماماً، في الضاحية الجنوبية لبيروت، لا في العراق أو سوريا أو باكستان. دموع الكبرياء تقفز من عيون الأحياء، من بقوا أحياء، ومن ركض من قريب وبعيد. هنا الضاحية.
قبل يوم، في التوقيت ذاته، كان كل شيء طبيعياً هناك. تحديداً هناك. مكان سيارة الموت. تقاطع يضج بالحياة، زبائن الفرن كعادتهم، الحلّاقان يعملان، دخول وخروج إلى متجر الثياب الشهير، أطفال يلهون أمام بائع الدجاج وهو يدخن نرجيلته عند باب محله. تمنى الأخير لو نثير إعلامياً قضية التلاعب بأسعار الدجاج من قبل المحتكرين. تمنى لو أن بلديات المنطقة تسير في مشروع الاستفادة من مياه الأمطار في الشتاء، باستغلال سطوح المباني، بدلاً من أن تضيع المياه سدى. كان في حديثه الكثير من الحياة. ما كان يتوقع ما سيحصل غداً. كل هذا التفاؤل سيأتي غد يقابله بكره الحياة.
في اليوم التالي تغيّرت الصورة. حل الموت. ثمّة ميت، على هيئة بشري حي، قرر أن يشيع نفسه بين الأحياء. لقد أشاع موته. قرر نثر الموت وقد فعلها بقسوة. أينه من بائع الدجاج؟ أكلاهما من طبيعة الإنسان؟ أتراه يكون هو صاحب الجثّة، أو ما بقي منها، تلك المدلاة إلى جانب الرصيف؟ كل من رآها قال هذا هو «الانتحاري». أهل تلك المنطقة اعتادوا فكرة التفجير، بعبوات ناسفة أو سيارة مفخخة، منذ زمن بعيد، لكن «انتحاري»! هذا جديد. هذا أقسى ما سكن في ملامح دهشتهم. الدهشة في العيون تقول: نحن الذين كسرنا شوكة إسرائيل، عدوة العرب والمسلمين، يأتي انتحاري ليدخل الجنّة على جثثنا؟ كيف هذا؟ كثيرون ممن رأوا تلك الجثة المعلقة كانوا يبكون. بكاء الأسف هذه المرة. بكاءً لا يخلو من ملامح غضب وتحدّ.
لحظات بعد دوي الانفجار، عمود كثيف من الدخان في سماء المنطقة، كان هذا كافياً ليعرف الناس هناك أن ما يخشونه قد وقع. بعد دقائق، لم يكن هناك جيش ولا قوى أمن، حتى حزب الله لم يكن قد نظّم حركته بعد. النار تأكل المحال والسيارات والمنازل. رقصة النار في السيارات المشتعلة كانت، بين لحظة وأخرى، تسمح برؤية الجالسين في داخلها. بقوا في سياراتهم. كأنهم تصالحوا مع النار. ما عاد بالإمكان تمييز ملامحهم. منهم طفل صغير، يمكن تمييزه من حجمه، إلى جانب بعض الكبار. ربما كانوا عائلة. أم وأب وولدهما. عرف عناصر الحزب أنهم أصيبوا في عقر دارهم. بعضهم أطلق النار في الهواء لتفريق حشود الناس الراكضة. صرخ أحدهم بالناس أن يبتعدوا، فربما يحصل انفجار ثان. لا يريد أن يصيبهم الأذى، أما هو، فيبقى مكانه، وبعد قليل يدخل بين النيران، كأنه قد أعد نفسه للموت عن غيره. يتعاطى، في هذه اللحظات الموحشة، بكثير من الإنسانية. من يكون هذا العنصر أساساً، ومن هم هؤلاء الناس؟ إنهم ليسوا سوى أهله وناسه ولحمه ودمه. هؤلاء أبرياء، هذا يكفي.
حضرت سيارات الإسعاف، من جهات مختلفة، ثم عربات الإطفاء والدفاع المدني. امتدت خراطيم الماء إلى الجحيم... لقد فات الأوان. ما حصل قد حصل. نجحوا بإنزال بعض الناس من منازلهم، عبر سلالم خاصة، كما أخرجوا قوارير الغاز من تلك المنازل بواسطة الحبال. مَن صاحب العلاقة هنا؟ دافع النخوة يحرك الكل. الكل يريد أن يساعد، أن يدخل إلى الوسط، حتى لو في عينه دمعة. كلهم يبادرون إلى ما يوحي بعدم الانكسار. تصاريحهم لوسائل الإعلام، وكلامهم بصوت عال بينهم، كل ذلك يوحي بأنهم يريدون إيصال رسالة: «نحن لا ننكسر». ربما أحدهم يدير وجهه بعد ثوان ويبكي. ربما يكبتها إلى حين عودته إلى منزله، لكن في ساحة الانفجار الكل أصحاب رسالة وموقف. لا مكان للضعف هنا حتى لو عنى الأمر تحدّيا للطبيعة البشرية.
أحد عناصر الحزب، من الذين يعملون في إجراءات الحماية الأمنية، همس بحسرة في أذن «أخ» له: «يحصل هذا رغم كل ما فعلناه سابقاً... يا رب عفوك». يجيبه الآخر: «حصل هذا، هكذا، لأننا قمنا بكل الإجراءات. لو لم نفعل ذلك لحصل أكثر». كلاهما كان يعمل على إزالة الركام أمس. أحدهم، على بعد 50 متراً من مكان التفجير تقريباً، رفع عن الأرض بواسطة «كرتونة» قطعة من اللحم البشري. إلى هذا الحد كان عصف الانفجار قوياً. أعطى ما رفعه عن الأرض إلى أحد حملة الأجهزة اللاسلكية. أدار رأسه ونظر إلى الأرض ومشى. لاحقاً شوهد يقف قرب عمود الكهرباء. صامتاً وسط كل الضجيج. لمن تلك القطعة التي حملها؟ لقاتل أم لمقتول؟ ربما تكون لجاره، الذي رآه وألقى عليه السلام صباحاً، من يدري؟ حل الليل ولم تكن قد ظهرت بعد كل هويات الشهداء. فضلاً عن المفقودين. هل ثمّة من رأى لحم شقيقه المفقود على الجدران؟ أي شعور كان على هؤلاء أن يشعروا به أمس؟ هل تبقى حياة من يرى مشهداً كهذا، ويتعاطى مع الأشلاء، كما كانت من قبل؟ ذاك الشاب ألم يرَ في منامه تلك الليلة، إن هو غفا، تلك الصور اللئيمة؟ هل سنعتاد هذه الصور الخبيثة؟ وصل إلى المنطقة عالم دين، بعمّته السوداء على رأسه. اعتلى عربة الإطفاء وبيده المذياع. راح يهدّئ الناس ويحاول تنظيم ردود فعلهم. بعض الغاضبين كانوا يتكلمون عن الانتقام، الفوري، وبالتالي كان لا بد من وجود «سيّد» يمتص غضبهم. كان حزب الله، في عزّ لحظات الألم، حريصاً على فكرة «عدم التعميم ومنع الفتنة». القاتل هو القاتل فقط، ولا يمثل إلا ظلاميته وعصره الحجري الممتد، فلا دين له ولا طائفة. الناس يحبون الحزب هناك، ويمتثلون له، ولكن هل سيلتزم هؤلاء دائماً؟
جواد مستعد لكل هذا. فتى لا يزيد عمره على 14 عاماً، يسكن هناك، كان يلهو في الشارع قرب الانفجار. نجا بأعجوبة. ركض، بعد الصوت المسموم، إلى دائرة الانفجار مع رفيقه. دخل أحد المحال التجارية، صرخت امرأة من تحت الأنقاض تطلب مساعدته، فمد يده إليها... لكنها ماتت. فارقت الحياة ويدها في يده. خرج من المحل وهو يبكي. ما الأمر؟ «لم أستطع فعل شيء لها. لقد ماتت». بعد أكثر من 6 ساعات على الانفجار، قرابة منتصف الليل، وجواد ما زال يبكي بين لحظة وأخرى. دموعه، بحسبه، سببها عدم قدرته على فعل شيء. فتى كان يتعامل مع سلامة المنطقة كمسؤولية شخصية في عنقه. يرفض أن يفهم الناس دموعه خوفاً أو ضعفاً. سيكبر جواد غداً، وسيكبر المشهد معه، وسيكون أقرب إلى المقاومة. كل فتيان تلك المنطقة يتحدثون هذه اللغة. هي لغة عربية. تُرى هل يفهمها بائع الموت؟