حجة واحدة طارت على ألسنة فريق سياسي كامل، بعد انفجار الرويس: أن الناس قتلت بالحديد والنار في ضاحية بيروت الجنوبية؛ لأن حزب الله يقاتل في سوريا. لكن ماذا لو كان العكس تماماً هو الصحيح؟ ماذا لو كان حزب الله قد ذهب للقتال في بعض التخوم اللبنانية والسورية، لأن ثمة من يخطط ويُعدّ لقتل الناس في الضاحية وكل بيروت ولبنان؟ سؤال يقتضي البحث في الوقائع والخلفيات والأغراض.
فيوم كتبت كل الصحافة الغربية عن تورط لبنانيين من خصوم حزب الله في الحرب السورية، وساد صمت المريب والمتورط والمجرم لدى كل هؤلاء حيال ما كتب وكشف، كان حزب الله لا يزال يُقنع أهل النظام في سوريا بإعطاء المعارضة حكومة جديدة بالكامل. ويوم أعلن أحدهم أن لا لزوم لخوض المعركة في لبنان، فحين يسقط بشار الأسد يسقط بعده حزب الله وكل من يقف معه في بيروت، كانت الضاحية لا تزال تحاور قطاع غزة وتراسل «إخوان» أوروبا سعياً إلى حل بالحوار في سوريا.
الحرب بدأت هناك إذن وأولاً. وبدأت بخلفية أن تُنقل بعدها ومنها تلقائياً إلى هنا. وأن يُستجلب حديدها ونارها وموتها وشرها إلى لبنان، من دون جهد أي لبناني، ومن دون أن يدعوها أي مغامر أو يستدرجها أي مقامر، بحسب تصنيفات التبرير. فلنتذكر متى أحرقت صور حسن نصر الله في مناطق تكفيريي سوريا قبل أكثر من عامين، ومتى صدرت بيانات لغة «الرافضة» والتوابيت والخوازيق. ومتى هوجم مقام السيدة سكينة في داريا، ومتى ظهر الجولاني مهدداً «الصفويين الجدد» والدادا متوعداً بنقل المعركة إلى الضاحية والظواهري مكملاً جهاده ضد كل الأرض إلا اسرائيل؟ كل ذلك كان قبل القصير، وقبل أن تقصّر دولة لبنانية كاملة في حماية حدودها وداخل الحدود.
أكثر من ذلك، وفي الوقائع دائماً، هل بالمصادفة تتزامن كل تلك الأحداث؟ أن يذهب سياسي لبناني إلى دولة خليجية كبرى أواخر آذار الماضي، فيلتقيه ذلك الأمير الطموح ست ساعات متواصلة، ويفتح له على الطاولة خرائط سوريا وجوارها، ويروح يشير عليها مزهواً، من أين ستدخل جحافله، وكيف سيحسم ويسحل ومتى... وأن تنفتح ملفات بلغاريا ونيجيريا وقبرص وتايلند، فيتحضر قرار الاتحاد الأوروبي، فيما قادة جيش إسرائيل يعلنون أن حربهم الثالثة على لبنان باتت وشيكة، وأنها ستكون قصيرة في الزمن، مؤلمة في الثمن؟ في كل تلك الوقائع بعض من أسباب تفجير الضاحية وهويات منفذيه والمخططين والمحرضين.
أما السبب، فلا علاقة له بسوريا، ولا حتى بلبنان. قُتل الأبرياء في ضاحية بيروت لسببين: أولاً لأن هناك «حزباً» يعبِّر عن أهل الضاحية ويجسد وجدان الضاحية، ولا يزال يقاتل إسرائيل، فيما كل محيطها قد طوى تلك اللغة وألغى هذا الموقف. وثانياً لأن هذا الحزب نفسه، بأهله ووجدانه، صودف أنه من انتماء مختلف عن انتماء من تطوع ليكون الوكيل الحصري لبعض الغرب في العالم الإسلامي. فيما هذا البعض في الغرب، لا يريد منه ومن وكالته الحصرية إلا تفجير العالم الإسلامي بالذات.
قُتل الناس في الضاحية، لأن كل من يقاتل إسرائيل مهدد بالقتل. أكان شيعياً أم سنياً أم مسيحياً أم بوذياً أم وثنياً أم ملحداً. فلو تخلى حزب الله عن كل ما يتهم به، من ولاية فقيه ومن مشروع إيراني ومن رأس جسر صفوي ومن فكر رافضي، وظل يؤمن بمقاتلة إسرائيل، فسيظل عرضة للقتل.
وقُتل الناس في الضاحية لأن في الغرب من يفكر بأن أفضل طريقة لتنفيذ «الاحتواء المزدوج» للعالم الإسلامي الصاعد، هي في تفجيره من الداخل، على فالقيه الأساسيين وتقاطعيه الانهياريين: مذهبياً، وعرقياً. بين سنّة وشيعة، وبين عرب وغير عرب. فيما هناك داخل العالم الإسلامي من يتوهم أنه إذا نفذ هذه المهمة المطلوبة من بعض الغرب، يفوز عندها بوكالته الغربية الحصرية على كل هذا العالم. بعض الغرب يريد اقتتال المسلمين مذهبياً وعرقياً. وبعض المسلمين يقبل على هذا الاقتتال، متوهماً فيه فرصة لسيطرته وتسيده.
وفي عين عاصفة كل ذلك، يقع أهل الضاحية وحزبهم. فلو تخلى هؤلاء عن قتال إسرائيل، ولو تخلوا عن كل سلاحهم وصواريخهم، ولو رموا آخر سكين مطبخ في بيوتهم، لظلوا عرضة للقتل، كوقود في مرجل إخضاع المارد الإسلامي، بتفتيته وتفجيره من داخله.
فكيف إذا تجمع في الضاحية الدافعان والسببان: أن يكون أهلها مقاتلي هذا الكيان الصهيوني، وأن يكون أهلها مشاريع قتلى في مشروع تفجير هذا العالم الإسلامي.
وليد جنبلاط كان أول من التقط رسالة الانفجار وخطورة غرضه. فوجه اتهامه إلى إسرائيل، ليُسقط المخطط، وليحذر من لم يفهم بعد، من المتورطين فيه سوءاً أو استغفالاً. قبل أن يطالب بلجنة أمنية مشتركة بين حزب الله وأجهزة الدولة، ليقنع جميع المعنيين بأنّ الكل في مركب واحد. فلا رابح ولا خاسر في هذه الحرب، بل إجماع في الهزيمة ووحدة في الكارثة. فمن ينقل عدوى الفهم الجنبلاطي إلى باقي القصور القصيرة النظر، في الوطن والمهجر؟