ليست أبواق السيارات ما أيقظ أبناء الرويس صباح أمس، بل صوت الزجاج المكسور يكنسه أصحاب المحال والبيوت. لوهلة تشعر بأن فرقة موسيقية تلعب على الزجاج، تعزف في الشارع. إيقاع الزجاج الرقيق لم يكن منسجماً مع حركة المارّين على الطرقات المحيطة بمكان الانفجار. يدوسون عليه من دون أي حيطة. لا شيء يخشون منه. الدماء التي قد تسيل بسبب جروح الزجاج، شاهدوا منها الكثير يوم الانفجار. هي أقلّ الخسائر التي مُني بها الحي، حتى راحوا يتمنون أن تقتصر كلّ الخسائر على جروح يسبّبها الزجاج المتطاير هنا وهناك.
لكن الواقع كان مخالفاً للتمنيات. لم ير أحد شارع الرويس لحظة الانفجار إلا وقال: هناك مجزرة. كان يمكن رؤية الأجساد مرمية في الشارع، وفي السيارات المحترقة بوضوح قبل أن تُحجَب الرؤية مع انتشار دخان الحريق. ليست الرؤية وحدها ما ستفتقده في تلك اللحظات. الكثير من الحواس ستتعطّل، مثل السمع والنظر والشمّ. ستحتاج إلى نهار كامل قبل أن تشمّ رائحة الحريق التي تغزو المكان. أما السمع فسيختفي تماماً. لا أصوات للناس التي تروح وتجيء. وكأن الكلام الذي يقولونه، صارخين، ليس سوى حروف تحرقها النار فور خروجها من أفواههم. كان هناك صوت أقوى يهدر، وكأنه موسيقى خلفية لفيلم صامت يجري أمامك وأنت تائه وسط الدمار. تكاد تعتقد أن صوت الهدير هذا هو للنار التي انتصبت كمارد أمامك فجأة، وراحت تنفث لهبها عليك.
هل من صوت للنار؟ وهل من لون لها؟ لن تسعفك حاسة النظر لتعرف ما هو لون النار هذه. هل هو أحمر أم أصفر أم برتقالي؟ لا إجابة حقيقية أكثر من أنه وهج يعمي العيون... ويحرق الذاكرة أيضاً.
أنت في الشارع الذي كبرت فيه. اشتريت ثيابك ومجوهراتك منه. التقطت فيه صورك الشمسية، وانتظرت طويلاً لتحصل على منقوشة من زاوية فيه، وبوظة مدقوقة من محل حلويات في زاوية أخرى منه. كانت رائحة المخللات تلاحقك كلما عبرته مشياً، إذا لا عاقل يختار عبوره بالسيارة إلا إذا كان مضطراً بسبب الازدحام الكثيف الذي يشهده يومياً وفي كلّ ساعات النهار. وكانت الخضر المرتبة بعناية تدفعك إلى الدخول والشراء، فالفاكهة بالنظر، كما يقول المثل.
كيف يحصل أنك، في لحظة واحدة، لا تعود تعرف أين كان هذا المحل، وأين كان ذاك؟ أي نار هذه التي تمحو المعالم إلى حدّ لا تعود تعرف مكاناً تعبره يومياً؟
لم يكن سهلاً أمس إعادة رسم معالم الشارع، وهويات الأشخاص الذين كانوا يعيشون فيه. تقف عند الحدود التي تسمح بها القوى الأمنية وتحاول أن تتذكر. يختلط الترتيب: أين كان الحلاق، وأين كان محل المجوهرات؟ وهل كان محل الأصواف بينهما أم بعيداً عنهما؟
هذا الأسود الذي طلى الجدران، وفتّت بعضها، قضى على أرواح. أفلا يقضي على ذاكرة؟ تقف أمام الحفرة التي خلّفها الانفجار، وتنظر إلى هذه المحال التي دخلتها مراراً. تسأل المسعفين عن مصير من كانوا فيها، فيجيبون: أنت انظري وقولي. هل يخرج أحد حياً من هنا؟
لا حواس قادرة على النظر، ولا عقل قادر على التفكير. لا رغبة إلا في تصديق أن الموت ليس قدراً. وأن هناك من قد يخرج حياً. ففي حضرة الانفجار، تنتبه فجأة إلى أن ذكرياتك بدأت تفلت من بين يديك. هي ليست ما اعتقدته زمناً، رحلة قمت بها إلى الثلج مراهقاً، ولا أخرى إلى أوروبا شاباً. لا، هي ليست الصور التي التقطتها الكاميرا هنا وهناك. ذكرياتك هي حياتك اليومية. هي الناس الذين كنت تلقي عليهم التحية كلّ صباح واختفوا فجأة ودفعة واحدة. تحاول أن تتذكر كيف كانوا يبتسمون لك من بعيد. يسألون عن صحتك. عن أهلك. عما إذا أعجبك نوع الحلويات التي اختاروها لك. تتذكر ما أخبروك إياه عن تدهور أعمالهم، عن دوامهم الطويل، عن التجار الذين يتعاملون معهم، وعن يوم العطلة الذي يمضونه جبلاً أو بحراً. في حضرة الانفجار، تكتشف كيف تصبح حياتك اليومية ذكرى تحاول أن ترمّمها. تنهمر الدموع وأنت تتذكر عبارة لطيفة قالها يوماً صاحب محل الأكسسوارات لكي يقنعك بشراء خاتم. ويحترق قلبك عندما تعرف أن وجه تلك الموظفة الجميلة، الشغوفة بالحياة، قد تشوّه.
تلتقط أنفاسك وتحاول الاستعانة بمن بقي حياً لإعادة ترميم المشهد. لكن حتى هؤلاء يحتاجون إلى من يساعدهم. لقد فقدوا التوازن لساعات، اعتقدوا خلالها أنهم فقدوا أحبتهم، أو اعتقد آخرون أنهم فقدوهم. كثيرون ماتوا وعاشوا أول من أمس. عادوا إلى الحياة وهم لا يعرفون لماذا كانوا سيرحلون. لماذا يرحلون وأحلامهم لم تتحقق بعد؟ الصبية، التي وقفت تنتظر السماح لها بالدخول إلى بيتها، ستتزوج بعد أسبوع. تقول هذا بهمس، وكأنها تخشى أن يجرح كلامها الموجودين «لكني أريد أن أدخل البيت لأعرف ما الذي أستطيع إخراجه من جهازي». بائع القهوة الذي غزت الدماء رأسه، من دون أن يكون مصاباً، كان يكرّر مرة بعد أخرى تفاصيل لحظة لقائه بابنته بعد ساعات من بحث أحدهما عن الآخر. «عندما رأتني انهارت، لم تصدّق أني أمامها» يقول بتأثر واضح.
صاحب بسطة البطيخ عند مفرق الشارع نجا. وكذلك مازن صاحب محل الفضة، والفتى العامل في توصيل المناقيش إلى المنازل وصاحب المحمصة. كلّ هؤلاء نجوا، لكن العريس الذي كان يفترض أن يتزوج أول من أمس، استشهد لدى الحلاق. والمريض عفيف ضاهر الذي كان يزور طبيبه حسن منصور للعلاج، استشهد في عيادته. والموظفة في محل الثياب توفيت. والفتاتان اللتان رمتا بنفسيهما من البناية المحترقة، لم يعرف شيئاً عن مصيرهما بعد. حتى الذي وجد ميتاً ظهر أمس في مصعد إحدى البنايات بقي مجهول الهوية. ولا ينسى الأهالي الناطور الذي قدم حديثاً من سوريا. توفيت زوجته وابنتاه ونجا هو وابنه. «هرب من سوريا فمات هنا» تقول سيدة آسفة. الأخيرة كانت تنتظر من يحمل لها أدويتها من بيتها الذي غادرته أمس على عجل. غير بعيد عنها، كان احد الرجال يتنقل من محطة تلفزيونية إلى أخرى، «يوجّه رسالته إلى العالم»، كما يقول، رافضاً الانقسام الطائفي والمذهبي. فيسبق سيّد المقاومة إلى القول: «من ارتكب الجريمة قاتل... لا طائفة له».