لا منتظرين أمام باب غرفة الموت في مستشفى الساحل. هناك، في المبنى الذي انفلت من سكونه أول من أمس، بقي موتى تفجير منطقة الرويس بلا أهل. وحيدون في انتظارهم المؤقت. لا لأنهم بلا أهل، بل لأنهم وصلوا إلى برادات بلا وجوههم التي كانت حتى حين تميزهم. احترقت الملامح بشكلٍ كامل، حتى صارت الجثث أشبه بقطع الخشب المتفحمة بعد احتراق طويل.
في «الساحل»، الذي كان أحد المستشفيات التي لازمت الانفجار متأهبة، بقيت 6 جثث بلا أسماء. كان ذلك حتى ساعات صباح أمس الأولى، فيما تعرفوا إلى جثة الشاب حسين غملوش فقط. البقية بقوا في براداتهم. لم يأت أحد للتعرف إليهم. ربما، لأنه الخوف من التسليم بقدر كهذا. فالمفجوعون بأحبائهم كانوا يهرعون إلى طوارئ المستشفى، وفي القلب أمنية بأن يكون الأحباء على قيد الحياة. مجرّد الحياة لا أكثر ولا أقل. كل ذلك «أهون من تلك الغرفة الأبدية»، تقول إحدى السيدات التي لم تكن تدري ما الذي تنتظره.
أول من أمس، عند مدخل طوارئ الساحل، كان مساء ما بعد الانفجار كئيباً. سيارات إسعاف لا تنفك تتوقف عن العويل. تأتي ممتلئة بالأجساد وأشلائها. تفرغ وترحل بالعويل نفسه. وكلما أفرغت جسداً، يجتمع حولها المفجوعون ليروا من هو الآتي. وعندما ترحل، يقف هؤلاء، محاولين تعقب رائحة دماء أحبائهم في غرف الطوارئ. لا أحد منهم يعرف في تلك اللحظة ما الذي ينتظره. هل ينتظر حياً؟ أم ينتظر شهيداً؟ في غمرة الانتظار الصعب، لا تسمع إلا تلك الصلوات العفوية الخارجة من الأفواه المتليفة. كأنها هلوسات، ولكنها تحوي أسماءً كثيرة. هي أسماء أحباء.
مع ساعات الليل، فرغت ساحات الطوارئ إلا من المنتظرين خبراً عن أحبائهم في الداخل. فبعد ساعات من الصخب، اتخذ عناصر الأمن في المستشفيات إجراءاتهم القاضية بعدم «إدخال من ليس له عمل في المستشفى». هكذا، أخلي الدار من الفضوليين، مفسحين المجال أمام المصابين بأحبائهم.
ليس في «الساحل» وحده؛ ففي بهمن والرسول الأعظم سترى الوجوه ذاتها والدموع أيضاً. وسترى هؤلاء المتأهبين لمعالجة الجرحى. فمنذ اللحظات الأولى للانفجار، أعلنت حالات الطوارئ في المستشفيات. إعلان لم يخلُ من بعض الضعف، «بسبب الأعداد الهائلة التي أتتنا». يقول أحد العاملين. فحتى صباح أمس، كان عدد الآتين إلى «الرسول الأعظم» بحدود 76، جريحاً و138 جريحاً إلى «بهمن»، كانوا في معظمهم من الأطفال والنساء. مع ذلك، بدا الوضع على كآبته أفضل حالاً مما كان عليه أول من أمس؛ فقد خرج الكثير من الجرحى، «بحدود 90% تقريباً»، فيما بقي هناك من تستدعي حالته المكوث في المستشفى، وهم في غالبيتهم من خضعوا لعمليات جراحية سريعة.
برغم هدوء الصباح أمس، إلا أن حبل الموت لم ينقطع. أشلاء تصل بين الحين والآخر. متفحمة في أكياس من النايلون الشفاف. هي بعض من جثث لم يتسلمها الأهالي أو جثث لم تعرف بعد. في كل الأحوال، «سيطول بقاء هذه الأشلاء حتى إجراء فحوص الحمض النووي لها لمعرفة هوية أصحابها». لكل هذه الأشلاء قصص ستعرف في ما بعد. قصص أطفالٍ ماتوا على أسرتهم. وعمال ماتوا في طريق عودتهم إلى وجبة الغداء المتأخرة، وآخرون تفحموا في سياراتهم فيما كانوا عائدين إلى بيوتهم أو خارجين منها، وآخرون سرقهم الموت وهم يلعبون في فسحتهم.
وللناجين قصصهم أيضاً. عن الموت الذي تطاير أمامهم وعن الدمار والنيران «التي اشتعلت في قلبي قبل الشارع»، يقول الدكتور محمد منصور. لا يحب الشاب رواية ما جرى معه، بقدر ما كان يريد رواية تلك الشابة التي كانت ممددة على السرير ليعاينها الطبيب في الطبقة السادسة من المبنى الذي وقع فيه الانفجار وبقيت ممددة بعدما سقط عليها الحائط دفعة واحدة. يؤلمه موتها «بتلك الطريقة العبثية»،
هو، كغيره، تؤلمه قصص الموتى. قصص اللحم المتطاير «الذي ربما دُسناه أثناء سيرنا»، يتابع. ما عدا ذلك، لم ير منصور. ففي تلك اللحظة، لم يشغله «إلا هؤلاء». ومثله أيضاً زينب شمس الدين التي عادت أمس إلى بيتها المقلوب رأساً على عقب، وهي تعرف أنهم «أخذوا الكثير من الأشلاء من داخل البيت». زينب، التي تقطن في الطبقة الأولى من المبنى المستهدف، رأت الموت ورأت ابنها جاد «وهو ينزف». كانت تُلبسه كنزته البيضاء، وفجأة استحالت حمراء. ورأت أيضاً الشرفة التي هوت إلى الأرض وحائط غرفة النوم يسقط معها. أما ابنها الآخر الذي كان ينتظر أن تلبسه ثيابه، فقد سمعت صوته فقط ولم تعثر عليه «إلا بعد فترة، إجوا الشباب وشالوا من تحت خشب الخزانة». أما جاد، فيروي عن الصوت الذي سمعه قائلاً: «عملت بوم كبيرة وصار البيت يهتز». يصف ما الذي حصل كما رآه «طلع تختي على السقف ورجع نزل، وسيارة بابا ذابت متل المياه وشرفة غرفتي نزلت لتحت». ما رآه جاد رآه الكثيرون، ومنهم محمد فقيه، الشاب الذي رأى حائط غرفة النوم يسقط من الطبقة السابعة قطعة واحدة والزجاج الذي نخر ركبتيه ويديه ومحيط عينه اليمنى. كأنه رصاص. وحدها فاطمة نصار عرفت قصص الآخرين ولم تعرف قصتها التي حدثت أمس في «بهمن». ففي الوقت الذي كانت فيه السيدة تتعافى من جراحها، مات زوجها عفيف ضاهر في الغرفة الأخرى.
عفيف واحد من بين آخرين عرفوا في مستشفيات «الساحل» و«بهمن» و«الرسول الأعظم» و«بعبدا الحكومي» و«جبل لبنان»، وهم حسين غملوش وحمد المقداد وحسين بيضون وندى شهاب وبتول ديب وحسن رمضان وداوود حدرج ورانيا الحشيمي. ثمة كثيرون لم يُعرفوا. تفحموا. هم الآن بلا أسماء وبلا قصص. ككثيرين راحوا قبلهم في مذابح مماثلة.