لم تكن تحديداً تظاهرات يوم 30 حزيران الماضي نقطة البداية لما آلت إليه الأوضاع في مصر. المتتبع لما جرى قبل ذلك اليوم كان يرى انقساماً يضرب المجتمع بطريقة ممنهجة تموت فيه السياسة تدريجاً ويصعد خطاب الهوية بقوة. لم يدرك إلا نفر غير كثير أن خطاب بعض التيارات التي توعدت الإخوان والإسلاميين قبل تظاهرات 30 حزيران، بالعودة للسجون والمعتقلات وربما الموت، حوّل الصراع بالنسبة إليهم إلى صراع وجود وليس صراعاً سياسياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى. كذلك الأمر بالنسبة إلى التصريحات غير المسؤولة من رموز في التيارات الإسلامية وغلاة الإسلاميين، التي بدأت منذ جمعة نبذ العنف في 21 حزيران، تتوعد أيضاً عبر نبرة تخوين أو إقصاء والتكفير، «بالسحق» مع اعتماد حديث «الهوية» كمفردة وحيدة في خلفية الخطاب، وعلى أمور فيها اختلاف فقهي.
كلها أمور أوصلت المشهد إلى مرحلة فقدان ثقة بين طرفي المجتمع، وكانت سبباً في تمادي خطاب «الإيذاء» و«السخرية»، و«الشماتة»، المتبادلة حتى أصبح الحليم حيران من المواطنين العاديين وأصبح الانقسام سيد الموقف، في صراع جوهره سياسي، تطور ليصبح حواراً «تكفيرياً - تخوينياً»، إما على المستوى الديني أو السياسي. على وقع هذه الخلفية توالت الأحداث بعد 30 حزيران، ليعلن الفريق أول عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع بيانه الشهير في الثالث من تموز، الذي جرى بغطاء من المؤسستين الدينيتين الأبرز في مصر، الأزهر والكنيسة القبطية وعدد من القوى السياسية والشخصيات البارزة، كمحمد البرادعي وحركة تمرد وحزب النور. وهو ما ظن بعده الكثيرون أنه سيجبر الإخوان على الرضوخ لما تمّ، وخاصة أنه تزامن مع اعتقال قيادات بارزة وطاعنة في السن داخلها كالمرشد السابق محمد مهدي عاكف ورئيس حزب الحرية والعدالة سعد الكتاتني وإغلاق قنوات وصحف للتيار الإسلامي. فضلاً عن اعتقال الشيخ حازم أبو إسماعيل، بما له من زخم وتأثير داخل التيار الإسلامي الأكثر صرامة من الإخوان، ولا سيما بعد مقتل 18 من أنصاره في اعتصام ميدان النهضة.
خطوات دفعت جماعة الإخوان وأنصارها إلى تحريك تظاهرات في عدد من المدن المصرية ليخرج مرشدها محمد بديع في اعتصام رابعة لإعلان الاستمرار في رفض ما سمته الجماعة «الانقلاب». تجلى ذلك بشكل واسع في ما عرف بمجزرة الحرس الجمهوري التي مات فيها أكثر من 50، لتكون بمثابة السكين الذي قطع خط الرجعة الذي كان يعول عليه الكثيرون مع شباب أنصار عودة محمد مرسي. وهكذا، بدأت مرحلة أخرى من التصعيد الميداني يسهم فيه الشباب بقوة لتتغير النبرة العامة بعد خوف كثير من أنصار بيان 3 تموز من الطريق الذي تسير فيه البلاد. أصبح الشعار المرفوع هو عودة الشرعية والديموقراطية، وبدأ ماراثون المبادرات: واحدة من الرئيس المؤقت عدلي منصور، وأخرى من مرشد الإخوان، كلاهما ضد بعض كلية. صاحب ذلك بداية جولات أوروبية على استحياء وهجوم كلا المعسكرين على الولايات المتحدة قبل أن يجلسوا مع ممثليها، بعد ضياع الثقة في كل الأطراف.
وظل الأمر على هذه الحال حتى جاءت مذبحة المنصة التي راح ضحيتها قرابة المئة أو يزيد قليلاً، وهي التي نفذت عقب دعوة الفريق السيسي يوم 26 تموز المواطنين إلى النزول لتفويضه مواجهة ما سماه «الإرهاب» وسط حملة إعلامية ممتدة منذ بيانه الأول، قامت بشيطنة أنصار مرسي، والتنكيل بهم إعلامياً.
بعدها توالت الزيارات الكثيفة والجادة للمبعوثين الأوروبيين والأميركيين والأفارقة، ككاثرين آشتون ووفد الحكماء الأفارقة اللذين زاروا مرسي، ووليام بيرنز نائب وزير الداخلية الأميركي وبعده السيناتور جون ماكين وغيرهم. وخرجت مبادرات حاولت السعي إلى حلول وسط، كمبادرة سليم العوا وعبد المنعم أبو الفتوح وشيخ الأزهر، والتي راحت كلها أدراج الرياح نتيجة المواجهة الصفرية بين تحالف دعم الشرعية ورفض الانقلاب بقيادة الإخوان وبين السيسي ومسانديه في تنفيذ خريطة الطريق. تم تحييد دور الأزهر والهجوم على محمد البرادعي، بما ضاعف من قلق الكثيرين ودفع بهم إلى التراجع عن تأييد ما جرى في 4 تموز، الذي رأوا فيه أنه انقلاب على المسار الديموقراطي. لكنهم في ذات الوقت كانوا يرفضون عودة مرسي، فصنعوا ما عرف بالميدان الثالث، إلا أن الفكرة لم تنجح بسبب التخوين.
لم يكن هناك سبيل للحل، لا بتسويات تشاركية أو خروج آمن بمفهومه الواسع لكل الأطراف، ولا الاحتكام لطرف ثالث يثق الشارع فيه، يمثل حكماً أو فاصلاً بين المعسكرين. انفجر الوضع بصورة يصعب التراجع عنها أو السيطرة عليها، ليكون قادة التيارات الإسلامية بعنادهم وقائد الجيش ونخب الحزب الوطني والمنتفعين بهم ببطشهم، أداة هذا التفجير. ويبقى النشطاء والثوار الرافضون لأسلمة الدولة قسراً أو علمنتها عبر عسكرتها جبراً، تائهين يبكون ثورتهم التي ضاعت من أيديهم، ليمنّي المتفائل فيهم نفسه بثورة أخرى، ويبكي المتشائم فيهم على دولة على شفا الانهيار.
وذلك بينما تضيع شعبية الإسلاميين بشكل أكبر أوسع، فيما يؤسس العسكر والشرطة ونخبهم إلى دولة أكثر قمعاً واستبداداً، يبدو أنها لن تصمد أمام موجات العنف المتوقعة واشتعال حرب الكل ضد الكل.