من هجمات باردو، إلى سوسة، مروراً بوسط تونس العاصمة، وصولاً إلى هجوم بن قردان "غير المسبوق" (وفق تصريح الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي)، تبدو تونس حين تُتَابع تطوراتها من عاصمة مشرقية، وكأنها تسقط في دوامة أعمال عنف يصعب وضع حد لها.
وقد يرتفع منسوب القلق عند محاولة قراءة التطورات من زاوية ليبية، أو حتى عراقية وسورية. لكن ظلت تلك الأطر تتصف بعدم الدقة حتى فجر أمس، لحظة وقوع هجوم نوعيّ على مدينة بن قردان (في ولاية مدنين)، القريبة من الحدود الليبية، ومن إحدى أهم نقاط العبور بين البلدين (رأس جدير).
وقد تكمن أهمية أحداث بن قردان أمس، في كونها تشير إلى غايات إرهابية جديدة. وفي هذا الصدد، يقول نائب رئيس "حركة النهضة" الشيخ عبد الفتاح مورو، في حديث إلى "الأخبار"، إنّ "المرض الإرهابي ليس جديداً، وكنا متوقعين... لكن هذه المرة هناك تطور نوعي، إذ كانت هناك إرادة لاحتلالها (المدينة)"، مشيراً في الوقت نفسه إلى خطورة "الخلايا النائمة"، وإلى الخروقات التي يجري التداول بشأن وقوعها فعلياً في بن قردان.
وللدلالة على خطورة ما حدث، يشرح الحقوقي، الأستاذ مصباح سالمي، في حديثه إلى "الأخبار"، من مكان قريب من بن قردان، أنّ العملية السابقة التي استهدفت المدينة قبل أيام كانت "محدودة"، إلا أنّ هذه المرة، كان "هدف التكفيريين (الاستيلاء) على المدينة". وفي تأكيد للطابع الاستثنائي للحدث، يشير سالمي إلى "الالتحام الشعبي" الذي حصل حين ساند المواطنون القوات الأمنية والعسكرية في أثناء التصدي للهجوم.
ولطالما ارتبط الحديث عن الداخل التونسي بالإشارة إلى التهميش الذي تعيشه تلك المناطق و"الظلم" الذي يواجهه أبناؤها. وقد يكفي كمؤشر على ذلك، الوقوف على دلالة الحركات المطلبية والاجتماعية الخاصة بهذه المناطق، والتي تخرج بطبيعتها عن المطالب المرفوعة عامة في البلاد.
عبد الفتاح مورو لـ"الأخبار": القضية أبعد من إجراء تعديل حكومي

وفي هذا السياق، يشرح المدير التنفيذي للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، علاء طالبي، في حديثه إلى "الأخبار"، أنّ بن قردان ومحيطها "هي ككل المناطق الداخليّة والحدودية، رهينة للتهميش الاجتماعي والاقتصادي، الذي تطوّر خلال السنوات الأخيرة إلى نوع من الإقصاء"، موضحاً أنّ ذلك "يظهر من خلال غياب بنية تحتيّة، وغياب المرافق الصحيّة، إضافة إلى الاعتماد على اقتصاد مبني على التهريب". ويضيف أنّ "هذه المناطق تأتي في المراتب الأخيرة من حيث مؤشرات التنمية وتفشّي البطالة".
ويجيب طالبي لدى سؤاله عن أسباب ارتباط هذه المدينة اقتصادياً بليبيا، بأنّ ما تقدّم عرضه "دفع الأهالي إلى اعتماد تجارة التهريب من ليبيا، والتي تنامت في ظل تغاضٍ من الدولة في آخر سنوات حكم بن علي نظراً إلى عجز هذه الأخيرة عن إيجاد حلول، ومخافة من أزمة اجتماعية أو احتقان شعبي، وهو ما حصل خلال انتفاضة الفقر والجوع في أوت (آب) 2010 التي شكّلت إحدى محطّات الثورة التونسية". ويضيف أنه "نتج من عجز الدولة تعاظم دور المهربين في المنطقة، وقد أضاف هؤلاء إلى نشاطاتهم تجارة السلاح وتهريب الأشخاص".
في المقابل، يشرح الناشط التونسي أنه "لا يجب الربط" بين ما يحدث في بن قردان والاحتجاجات التي شهدتها مناطق تونسية أخيراً. ويقول: "أولاً الاحتجاجات الاجتماعية موجودة في القصرين، وقفصة، وجبنيانة، والقيروان، وجندوبة، وغيرها، ونحن نتابع كل التحركات الاجتماعية؛ ثانياً، إنّ السلطة تستعمل هذا السبب للقمع أو لعدم الدخول في حوار اجتماعي بحجة الحرب على الإرهاب والأخطار الأمنية، ولا نستغرب غداً أو بعد غد فضّ الاعتصامات بالقوة تحت ذريعة التأهب لمواجهة الخطر الإرهابي، وهو ما سيجد للأسف مساندة من قطاعات من الإعلام والرأي العام".
يشير حديث طالبي، على أقل تقدير، إلى أزمة نشأت بفعل عدم وضوح أولويات الحكومات المتعاقبة منذ 2011. لكن على الرغم من الأزمات التي تواجه الحكومة الحالية، يجيب الشيخ عبد الفتاح مورو، لدى سؤاله إن كان طرح التعديل الحكومي قد آن، بالنفي، معتبراً "أنّ القضية أبعد من ذلك"، ومشيراً إلى ضرورة إعداد خطة سياسية وأمنية و"استعلامية".
على صعيد آخر، تدفع التحديات الراهنة باتجاه التساؤل بشأن قدرات المؤسسة العسكرية التونسية على مواجهة أي انزلاق أمني (وعسكري)، خصوصاً بعدما كسب الجيش الوطني دوراً لم يكن بحوزته خلال عهود ترجيح الأمن والخشية من "وقوع انقلابات"، بالتوازي مع ازدياد رفده منذ 2011 عبر رفع موازنة وزارة الدفاع أو نتيجة الدعم الخارجي.
وتواجه تونس مجمل التحديات، في ظل حكم ائتلاف يجمع "قطبي" الساحة التونسية، وفي وقت تندفع فيه أكثر فأكثر نحو "الارتماء في أحضان التحالف الدولي" الذي تقوده الولايات المتحدة، وإعلانها أخيراً دخولها في "التحالف الإسلامي" الذي أسست له السعودية (يذكر أنّ الولايات المتحدة منحت تونس عام 2015 صفة الحليف الرئيس السادس عشر من خارج حلف شمال الأطلسي).
وللإشارة، فقد جاء إعلان الانضمام إلى هذين التحالفين من دون مناقشتهما في البلاد. ويعزو متابعون الأسباب إلى ضغوط سعودية تتعرض لها تونس بغية كسب موقفها. وتدعّم تلك الضغوط عبر ربطها بالمساعدات المالية والاستثمارات. ولم تستطع السلطات التونسية، وفقاً لهؤلاء، التخلص من هذه الضغوط إلا في "قضية حزب الله"، تحت ضغط الشارع والنقابات والأحزاب والإعلام.