يحلل مدير مركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات في جامعة القاهرة، الدكتور محمد صفار، في حديث لـ«الأخبار»، الجذور التاريخية لعلاقة مؤسسة الرئاسة بالمؤسسة العسكرية، ويشير الى أنّها بدأت منذ عام 1952، حين أصبح الجيش هو المؤسسة الحاكمة وقلب الدولة واحتل أفراده الغالبية العظمى من المناصب العليا، بحيث بات صاحب تأثير مباشر على صنع القرار، وذلك حتى عام 1967، حين وقعت نكسة حزيران، لتبدأ بعدها مرحلة أخرى تأسّست على انسحاب جزئي لعناصر الجيش وإحلال التكنوقراط مكانهم، وهو الأمر الذي ارتفع بعد انتصار 1973 لتتسارع وتيرته في عصر حسني مبارك، ويتبلور في صورة اتفاق غير مكتوب، مفاده أن ينسحب الجيش من المناصب السياسية، على أن يكون رأس الدولة قادماً من المؤسسة العسكرية.
وينطلق صفار من هذه القراءة التاريخية ليخلص الى أنّ الجيش المصري في عام 2011 لم تعد لديه القدرة على إدارة الحكم، لأنّه أصبح جيشاً محترفاً، بينما كان على رأسه في عام 1952، رجال لهم خبرة بالتنظيمات السرّية، والحركات السياسية.
أحمد عبد ربه، الباحث المتخصص في العلاقات المدنية العسكرية، ومدرّس العلوم السياسية في جامعة القاهرة، وصف العلاقة بين مؤسسة الرئاسة والمؤسسة العسكرية بأنها علاقة «توازن قوى»، شارحاً بأن هذه العلاقة مرت عبر ثلاثة مستويات: الأول هي مرحلة الاختبار، حين سعى الجيش إلى استباق وصول رئيس إسلامي إلى السلطة، بمنحه نفسه قرار الفيتو على قرارات السلطة، وتشكيل لجنة لوضع الدستور من خلال الإعلان الدستوري المكمل. أما المستوى الثاني، فهو قرار إقالة المشير حسين طنطاوي والفريق سامي عنان، وهو ما عجل به حادث مقتل الجنود المصريين في رفح، ومُنع الرئيس محمد مرسي بعدها من حضور الجنازة وجرى التعدي على رئيس وزارئه في الجنازة، وهو الأمر الذي عدّه الباحث إنهاءً عملياً لسلطة الحكم العسكري في الحكم، منبهاً في الوقت نفسه الى أن ما قام به مرسي، لم يكن انقلاباً على المجلس العسكري، حيث أتى بالاسم الأوفر حظاً فقط، من دون المساس ببنية المؤسسة العسكرية في داخلها. أما المستوى الثالث، فكان مستوى المواءمة والذي ظهر في الدستور الجديد المدعوم من القوى الإسلامية، إذ تم الإبقاء على استقلالية المؤسسة العسكرية، وتشكيل مجلس الدفاع الوطني وغالبيته من العسكريين، والإبقاء على محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية، بحيث باتت المعادلة واضحة بأن الجيش لن يتدخل في الوضع السياسي مقابل إعطاء مرسي الاستقلالية لهم.
ورأى عبد ربه أن ذلك ترجم عمليا بامتثال الجيش لقرار مرسي بالانتشار في مدن القناة إبان أزمة آذار الماضي فيها، لكن في الوقت نفسه تجنب الدخول في مواجهة مباشرة مع الأهالي، لأنه ليس من مصلحته الدخول في صراع غير محسوب.
وهو ما وافق عليه صفار بالقول إن علاقة المؤسسة العسكرية بمرسي توصف بأنها «زواج مصلحة»، وهو نوع من العلاقات لا يترتب عليه أن يدفع الجيش فاتورة مرسي؛ وهنا يبرز السؤال التالي: هل يسمح الجيش بعودة النظام القديم، في ظل البراءات المتتالية لرموزه وإعلان رموز في المعارضة مثل حمدين صباحي ومحمد البرادعي الاستعداد للتصالح معه؟ الجواب أن هذا الأمر صعب للغاية، في ظل هيمنة المؤسسة العسكرية على السياسات العامة المحورية للدولة واعتبار الولايات المتحدة له بأنه المؤسسة الوحيدة التي يمكن التحدث معها بجدية.
واعتبر عبد ربه أن ليس من مصلحة الجيش خلال الفترة القادمة الدخول في صراع غير محسوب؛ لذا سيكون حكماً، على الغالب، فيما لو احتدمت الأمور وتصاعد العنف بين الفرقاء السياسيين.
محمد بريك، الباحث في الإستراتيجية العسكرية في جامع ريدنج ببريطانيا، رصد علاقة المؤسسة الرئاسية بالمؤسسة العسكرية في 4 مراحل. وقال لـ«الأخبار»، إن المرحلة الأولى هي «مرحلة الوصاية الكاملة والصريحة»، وتبدأ منذ تولي مرسي الرئاسة في 1 تموز حتى إعلان آب. وفي هذه المرحلة كان للدولة رأسان هما المشير طنطاوي والرئيس مرسي، حيث ظهر أن «المجلس العسكري يريد أن يكون وصياً على الدستور لضمان مصالحه، ثم ضمان إعادة الانتخابات الرئاسية للتخلص من مرسي». غير أنه يرى أنّه «مع تراكم الأخطاء السياسية والأمنية للمجلس العسكري، ومحاولة نظام مرسي أن يحشد ضغطاً شعبياً ضدّه اعتماداً على أجندة توافقية أعلن الالتزام بها، فقد نجح في صياغة معادلة توافقية جديدة مع الصف الثاني بالمجلس العسكري».
أما المرحلة الثانية، فقد بدأت مع الإعلان الدستوري في 12 آب، «إذ أصبح لمرسي الرئاسة الفعلية، ولكن مع وجود الدور الوصائي للمؤسسة العسكرية على حدود الأمن القومي والامتيازات الاقتصادية والبيروقراطية التي كانت أيام حسني مبارك، وتم تتويج هذه المرحلة بدستور حقق ما تطمح له المؤسسة العسكرية».
وفي المرحلة الثالثة «عادت المؤسسة العسكرية كي تتدخل أكثر في الشأن السياسي المدني، وتستفيد من تصاعد الاحتقان الشعبي والسياسي ضدّ مرسي، وكذلك من فشل نظامه الوظيفي في الجوانب الاقتصادية والأمن قومية»، حيث رأى بريك أن هذه المرحلة «تتميّز بتحول قطاعات شعبية وسياسية لطلب صريح لتدخل المؤسسة العسكرية في تغيير المشهد السياسي الداخلي، وحتى الجانب الأميركي تراوح موقفه بين الدعم الكامل والضاغط لأجل نظام مرسي، إلى الدعم الجزئي والمتردد».
المرحلة الرابعة، برأي بريك، هي «ما نعيشه في الفترة الحالية، وفيها تبدو المؤسسة العسكرية ميالة فعلاً للتدخل لاعتبارات عديدة، منها سوء تعامل النظام مع أزمات المياه وسوريا، وتصاعد العنف واحتمالاته بشكل كبير، وفشل كبير على مستوى البناء السياسي للدولة»، منبهاً الى أن خطاب السيسي الأخير «يظهر جيداً أن القوات المسلحة زادت من حجم تدخلها السياسي بشكل مستقل»، مُرجعاً تدخلها الكامل مستقبلاً إلى اعتبارات هامة أبرزها «درجة التأييد الشعبي لمظاهرات 30 يونيو ودرجة العنف المحتمل حدوثها».
وكشفت مصادر قريبة من المؤسسة العسكرية المصرية، لـ«الأخبار»، أن رؤية قادة الجيش في مستوياته العليا ومستوياته الوسطى لم تكن مرحبة بوجود رئيس إسلامي على رأس الدولة المصرية، مستشهداً في ذلك بتقارير المخابرات الحربية التي كانت ترسلها لقادة الكتائب والقادة الميدانيين، والتي كانت تذكر فيها الرئيس مرسي بعبارات من قبيل «مرسي وجماعته»، وتحذر من «وصول أسرار الأمن القومي المصري إلى التنظيم الدولي للإخوان».
غير أن المصدر نفسه أكد أن قيادات كثيرة في الجيش ترى أنه «لا بديل آمناً لمرسي»، على الرغم من أن «ثمة عدم رضى كاملاً من كل القطاعات داخل المؤسسة العسكرية عن المؤسسة الرئاسية». لكن عدم وجود البديل يجعل المؤسسة تركن لسيناريو مفاده، «عدم إسقاط مرسي، أو السعي له وإكمال مدّته طوال 4 سنوات، مع ترك الضغط الشعبي المستمر عليه»، على أن تستعد المؤسسة بمرشح بديل من داخلها، كعسكري سابق، أو أحد قريب منها من خارجها، «يقدّم للرأي العام كبديل لمرسي والمعارضة في آن واحد».
الا أن تصاعد الغضب الشعبي، وإعلان النظام القديم عن نفسه بقوة، وضع الجيش في تحدٍ كبير؛ فعدم وجود بديل آمن كان يعني للجيش «فشل المؤسسة العسكرية في إيجاد بديل للنظام القديم يمكن أن تتفاوض معه وتضغط عليه في آن واحد، وآمن على مصالح المؤسسة العسكرية، ويعتمد النهج الإصلاحي لا الثوري». ومصدر الحيرة لدى الجيش في الوقت الحاضر هو استبعادهم للتيارات الشبابية كبديل للحكم بسبب «إما أنها كتلة ضعيفة، أو كتلة صعبة المراس يصعب التفاوض معها على مكتسبات المؤسسة التاريخية». في حين أنها ترى أن النخبة السياسية المعارضة أنها مصابة إما بالتشرذم أو الرعونة، ومن ثم عدم إمكان الاعتماد عليها في إدارة دولة بحجم مصر وفقدانها القواعد الشعبية المؤثرة.