لم يمض وقت طويل على قول رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون (في ١٥ شباط) إن سلوك القيادات السياسية يضع لبنان مجدداً على المسار الذي أجلس عليه في بداية السبعينيات، وقاده إلى الحرب الأهلية. كان ذلك قبل التمديد للمجلس النيابي وبروز ظاهرة رئيسي الحكومة (المكلف والمصرّف) وانغماس حزب الله في الصراع السوري ومحاولة أطراف محلية مدعومة إقليمياً بالسلاح والمال والإعلام شل الجيش.
كثافة تصريحات الجنرال ومواقفه شبه اليومية تدفع كثيرين الى المرور يومياً مرور الكرام عليها، متسائلين غالباً عما يتحدث عنه الرجل وسبب شغل نفسه بالأمور المستقبلية، فيما هم يتخبطون بحاضرهم. لكن سرعان ما يطرأ حدث يعيد الانتباه لأهمية ما يقوله رجل الرابية وقدرته على التنبيه مما سيحصل.
قبل بضعة أشهر، كادت قوى ١٤ آذار تنتسب برمتها إلى جمعيتي مكافحة العنصرية الناشطتين لبنانياً، احتجاجاً على التذمر العوني من تزايد أعداد اللاجئين السوريين إلى لبنان دون حسيب أو رقيب. بات عون، بسحر فارس سعيد الساحر، يريد قتل من ينجون من المذبحة السورية أو رميهم في البحر. لم يلتفت أحد إلى التركيز العوني على الخطر الأمني من علاقات بعض النازحين المتشعبة بالمجموعات التكفيرية الناشطة في بلدهم ومختلف أجهزة الاستخبارات في العالم. ولم يعر أحد في الحكومة والإعلام والهيئات الاقتصادية اهتماماً لتساؤلات عون عن انعكاسات اللجوء الضخم على الاقتصاد.
يتحدث الرجل عن خطر طويل الأمد، فيجرجرون تنبيهه إلى زواريب السجالات اليومية. وتمر أشهر، لا يلبث أن يلعلع بعدها صراخ التجار الطرابلسيين والعكاريين، وغالبيتهم من تيار المستقبل، يشكون المزاحمة غير المعقولة من التجار السوريين، وتراكم التقارير الأمنية الملاحظة نفسها عن تشكيل المقاتلين السوريين الذين وفدوا للتطبب في لبنان والتمون البنية الرئيسية للمجموعات التكفيرية الموزعة في الشمال والبقاع وصيدا والطريق الجديدة.
رغم ذلك، لم يعترف أحد بصوابية الطرق العوني غير العنصري على هذا الباب، ورفعه الصوت مبكراً، حيث يفترض رفعه. ولا يدعو عون مناصريه إلى رفع صوره مذيلة بعبارة «يلي قلته صار».
كان محقاً، وكان محقاً أيضاً في شكواه من ترك التكفيريين يسرحون في ظل نأي الأجهزة الأمنية بنفسها ويمرحون. هو، خلافاً لرئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، لا يعلق على موضوع. لا يكرر يومياً ما قاله غداة مجزرة عرسال إن «أهم قائد عسكري هو الذي يربح معاركه من دون أن يخوضها لمحافظته على قوته الردعية». في مديرية الاستخبارات في الجيش اللبناني ما يكفي من المعلومات عن المتشددين الموزعين شمالاً وجنوباً وبقاعاً، والذين تقول مختلف الأجهزة الأمنية في العالم إن توقيفهم يوفّر على الجيش والاقتصاد والمواطنين خسائر جمة وأعصاباً. كان الجيش يعلم بما يخبئه أحمد الأسير، كان لديه العذر لاعتقاله بعد قطعه طريقاً دولية وتلقين الآخرين درساً به، قبل أن تكبر ظاهرته.
لو كان جعجع محل عون لأيقظ اللبنانيين منتصف ليل الأحد ــــ الاثنين ليذكرهم بما قاله قبل أشهر، داعياً الجيش إلى سماع كلمته في المرة المقبلة. يقول عون كلمته ويكمل طريقه. السبّاق في استشراف ما سيكون عليه الربيع السوري قبل نحو عام من إظهاره وجهه الحقيقي، قال لزواره إن خطورة المتشددين تكمن في سرعة نموهم التي تؤثر سلباً على عقولهم. يختلف الضابط الميداني عن ضباط المكتب، كما يختلف الضابط المتنقل بين صيدا والعرقوب وطرابلس وجبل لبنان والهرمل وجزين عن الضابط الذي أمضى تجربته الميدانية بين المدفون وعجلتون. لا ينفك زواره يخرجون من عنده مقتنعين بأن لـ«القاعدة» عدة أسماء: تنتهي صلاحية فتح الإسلام، فيلجأون إلى اسم جند الشام أو جمعية خيرية أو جبهة النصرة. لكنها تبقى مجرد أسماء عدة لنفس المقاتلين والفكر والسلاح. وفي مجالسه الخاصة، يقول إن وسائل الإعلام البرتقالية تستضيف التكفيريين لتعرّف الرأي العام عليهم، حتى لا تنطلي عليه الأكاذيب في شأن صدقهم ونزاهتهم ومظلوميتهم حين يقمعون.
الرجل المتفائل غالباً بدا لنواب تكتله في اجتماعهم الأسبوعي أمس أكثر تفاؤلاً، وإن كان مرهقاً بحكم متابعته الدقيقة لكل ما يحصل حين يتعلق الأمر بالجيش. تفاؤله ليس بفضل التطورات الميدانية في سوريا التي تسير جميعها كما يشتهي عون، أو طي صفحة التمديد، إنما بسبب استعادة الجيش قوته المعنوية، وإعلامه كل من يفكر لحظة بالاعتداء عليه أن رده لن يكون عادياً.
ليس كل من يقرأ التنبيهات العونية يمر عليها على عجل؛ هناك من يزور الرجل، يفهم هواجسه ويقتنع بحلوله المبنية على خبرته. وبين الزوار وهذا النوع من القراء عسكريون. ما حصل في صيدا مثّل استمرارية لما بدأ في عكار واستكمل في مجدل عنجر وطرابلس. أكثر من ضابط وفي أكثر من منطقة كرسوا جهوزية الجيش لإعادة كثيرين إلى أحجامهم الطبيعية. بدأ أول من أمس تغيير في المسار الذي وُضع عليه لبنان في مطلع السبعينيات. حين يسمعها نواب عون من عون يختلف وقعها في نفوسهم عن مشاهدة آثار الانعطافة تلفزيونياً. يقول النائب إدغار معلوف، وهو ممن كانوا يعرفون عون جيداً، إن مشكلته الرئيسية مع من تعاقبوا على قيادة الجيش قبله وبعده كمنت في رفضهم الاستفادة من موقعهم والمؤسسة التي بإمرتهم لتغيير المسار اللبناني والمصير. وهو ما فعله عون ودفع ثمنه باهظاً. أما مشكلتهم معه فكانت في محاولته تجاوزهم رغم التراتبية العسكرية لإنقاذ ما يفترض نفسه قادراً على إنقاذه. وصيدا في هذا السياق ليست تفصيلاً: غداة استشهاد معروف سعد، وجد عون نفسه بناءً على أمر حكومي مع جنوده محاصرين بالشلل في الثكنة، وما كاد يجمعهم ويبدأ بتحريضهم على القيادة السياسية تمهيداً لالتفافه ميدانياً على القرار الحكومي حتى وجد نفسه في طوافة عسكرية برفقة مدير الاستخبارات السابق جول بستاني، تاركاً صيدا لمسار شق طريقاً صوب الحرب الأهلية. وخلافاً لما يشاع عنه، كانت سعادته بحسب النواب الذين التقوه أمس كبيرة بأن ما عجز عن فعله من بوابة صيدا تحديداً، فعله تلامذته.