ليس من أحد غير الجيش يستعجل إزالة ذيول معركة صيدا. حتى إنه قد لا يكون مضطراً الآن إلى مراجعة الحسابات والمعطيات والنتائج، وما يجب القيام به لحماية هذا الإنجاز. وقد يكون النقاش في قيادته متصلاً بأبعاد أخرى، نتيجة ضغوط فريق الولايات المتحدة والغرب ودول الخليج وفريق 14 آذار، التي تريد منه اليوم توجيه ضربة ما لحزب الله أو لمن يمتّ بصلة لحزب الله، فقط، لأجل القول إنه جيش كل اللبنانيين. فكيف ستكون حاله، ورؤساء الحكومات السابقون والحاليون والمستقبليون تحدثوا عن الكيل بمكيالين؟
لكن، هل من كل هؤلاء من يريد للناس أن يعرفوا لماذا حصل ما حصل في صيدا؟
سيكون الجيش مضطراً خلال الفترة المقبلة الى الإعلان رسمياً أو عبر مصادره عن تفاصيل ما جرى، وعن الخطة التي كانت معدة مسبقاً لضرب حواجزه وطرده من الأحياء الفاصلة بين مربع الأسير والمنطقة المطلة على حارة صيدا، حيث كان العمل جارياً، على طريقة جبل محسن، لافتعال احتكاكات بقصد إشعال المدينة وجوارها على خلفية أنها معركة بين السنّة والشيعة.
وعدا عن رهان الأسير على أن الجيش كان سيخفض رأسه ويقبل الضربة ويجبر على الهرب، فإن مواقف 14 آذار عكست الرهان السياسي الكبير لهذه المجموعة، على ما يحصل في صيدا. وكان هؤلاء، ومعهم الجماعة الإسلامية، يعتقدون أن بمقدور الأسير إشعال المنطقة بطريقة تحتم محاصرة حزب الله، ومن ثم تحميل الأسير المسؤولية وعزله أو طرده، وأن يتولى هؤلاء حصاد ما كانوا يعتقدون أنه ثمرة سياسية كبيرة. وهو أمر احتاج الى خطوات عملية، وخصوصاً في المنطقة التي توصل عبرا بمحيط مجدليون، وهي خطوات يعرفها قادة «المستقبل» قبل غيرهم، ولو أن بعضهم كانوا خارج الأجواء، لنقص في الثقة به، أو لعدم الحاجة الى رأيه.
أما الجانب الآخر من الجريمة، فهو المتصل بحسابات أجهزة استخبارات عربية، ولا سيما في السعودية وقطر، التي كانت تعوّل كثيراً على نجاح مهمة الأسير في صيدا، علماً بأن الرجل لديه جدول أعماله الخاص، ولديه طريقته في إدارة الأمور، وربما هي التي جعلته يقدم على عملية الانتحار هذه.
ولم يكن ينقص هذه اللعبة سوى تصريحات الحكومة السعودية، برئاسة الملك عبد الله، التي أعربت «عن بالغ القلق إزاء ما تشهده مدينة صيدا من أحداث، داعياً الجميع إلى وقف الاشتباكات وعدم تصعيد الموقف». ولوهلة أولى، يمكن الاعتقاد أن تيار المستقبل هو من صاغ البيان، لولا التنبه الى أن «أحداث صيدا» كما سماها البيان كانت في صلب اهتمامات ومتابعات القيادة السعودية، التي لم تكلف نفسها عناء إدانة الاعتداء على الجيش اللبناني وقتل عسكرييه، بل رأت ضرورة «وقف الاشتباكات»، على اعتبار أن ما يجري هناك هو صراع بالنار بين مجموعتين مسلحتين. حتى إن مشروع «مبادرة الحل» التي حملها مشايخ من طرابلس أمس الى قيادة الجيش في الجنوب، كانت تقوم على مبدأ أن يجري وقف لإطلاق النار، وأن يجري التفاوض مع الجيش من جهة ومع الأسير من جهة ثانية، لأجل التوصل الى صيغة حل على طريقة ما يحصل في طرابلس أو البقاع.
يضاف الى ذلك أن ما حصل في صيدا كان جزءاً من خطة أشمل، وجرى التمرين عليها مراراً وبأوجه مختلفة في أكثر من منطقة، وجاءت أخبار سوريا غير السارة لفريق أميركا وعربها، لتدفع نحو الاستعجال بتنفيذ هذه الخطة. وهو ما سوف تظهره الأيام المقبلة، برغم كل الاتصالات والضغوط الجارية منذ ساعات مساء أمس، لإعادة «ضبضبة» الجميع بعدما صار الخلاف عنواناً لاستعادة الجيش هيبته وكرامته. وهذا ما قاد هؤلاء الى التحضير للجريمة برفع الصوت ضد حزب الله، وحتى تحميله مسؤولية ما جرى في صيدا.
مع ذلك، فإن الدماء التي سقطت من العسكريين والمدنيين، ستبقى من مسؤولية قطر والسعودية، وبقية المجموعات التي سكتت عمّا كان يعدّ له الأسير منذ فترة ليست قصيرة. وكل محاولة لتعمية الأبصار من خلال الحديث عن المظلومية والإحباط لن تفيد في تغيير الحقيقة.
في لبنان التوتر كبير جداً، والميل الغالب لدى فريق 14 آذار، وعلى رأسه تيار المستقبل، يتجه نحو موجة ندب جديدة على طريقة «مذهب 7 أيار». وهؤلاء لا يندبون حظهم العاثر دوماً، بل يخشون أن تكون لمعركة صيدا نتائج مباشرة على معركة تأليف الحكومة الجديدة، وتالياً على واقع السلطة السياسية في البلاد.