«رميش تبكي». هذه ليست مجرد «تغريدة» ولا رثاء. إنها صورة داكنة لبلدة مشعة. تداول كثيرون هذه الجملة أمس تعليقاً على استشهاد النقيب في الجيش اللبناني سامر طانيوس. الدمع هو حال البلاد الدامية بلا سبب. أمس عاد سامر إلى رميش كي لا تعود الحرب بأنياب جديدة. في عوكر يعرفون الشهيد الهادئ. أصدقاء الطفولة. الجيران الودودون. لا يعرفون أكثر من البكاء. سيصوبون الورود إلى نعشه في الأيام المقبلة. سيلعنون القاتل ألف مرة. قد يفخر بعضهم بشجاعته، غير أن الألم سيكون طاغياً. ستغرق رميش في ثياب الحداد. لم يقل أحد للناس معنى الأسى، وقد جاء الآن مغطى بعلم لبناني. «رميش تبكي». ويبكي معها «جيش» صامت من اللبنانيين، تقرع الحرب أبوابهم، ولا يفتحون.
العالقون في عبرا ليسوا تفصيلاً. في الواقع، هؤلاء، الذين لا يعرف بعضهم فعلاً، ما الذي يجري، أو من هو أحمد الأسير، هم الذين تذوب أعصابهم رعباً. صورة الأسير، وخطاب الأسير، ليسا تفصيلاً عابراً. لم يعتد اللبنانيّون هذه اللغة حتى في «عز الحرب». هذا قاموس زحف مع الإرهاب حتى سوغه التكاسل. والذي يسوغ «جبهة النصرة» لماذا لا يسوغ الشحن المذهبي؟ هذه ليست «أدبيات» لبنانيّة، حتى في عز الحرب، وأيام «الذبح على الهوية»، و«تنذكر ما تنعاد». وفي حديث «بسيط» بين مجموعة شباب في «أشرفيّة بشير»، يتضح جليّاً، انفصال أحزاب «14 آذار» عن قواعدها. القواعد أذكى من أحزابها. وأهل الأشرفيّة أدرى بشعابها. هناك، لم يعد الأسير مجرد مهرج بلحية طويلة يقف على منبر لإصدار «التكفير». الثقافة التي ينهل منها الأسير عصيّة على هؤلاء الشباب، حتى يصل الأمر ببعضهم إلى استعادة شريط الحرب الطويل كما هو، والاستنتاج بأن «الفلسطينيين كانوا عدواً واضحاً بقضيّة واضحة». طبعاً، يعزز الأسير عداء شارع طويل للاجئين أبرياء لا ناقة لهم ولا جمل في ما يحصل. لكن الأسير غير مفهوم بالنسبة إليهم. معقد سيكولوجيّاً وحتى شكلياً. وبمعزل عن مغالطات ما يقوله الشاب عن الفلسطينيين والسوريين، إلا أنه يفسر الشعور بالخطر «الوجودي». هذا الشاب ليس متحزباً، وإن كان «بشيريّاً». وعلى هذا القياس، يصبح صعباً عليه أن يتقبل «دعوات الانقسام عن الجيش في هذه الظروف». لقد بقي له هذا الجيش. التفريط به يعني الموت.
وفي «الشارع المسيحي» ليس من عاقل يصدّق أن فارس سعيد حالة شعبية، أو أن ميشال معوض يلقى آذاناً صاغية في زغرتا. الرجل (ربما) منفصل عن الزغرتاويين، حتى عمّا بقي من إرث والده، أو والدته، على الأرجح، كما يقول متابعون. أحد الزغرتاويين، يؤكد أن الأجواء في المدينة المارونيّة تراقب «الصعود السلفي» في طرابلس باهتمام شديد. والبعض هناك يبالغ في تقدير الخطر، فيستحضر السيناريو العراقي، وحملات التهجير، وإن كان السكان مؤمنين بأنّ عاصمة الشمال لن تسقط في فخ التطرف: «شويّة زعران وبيخلصوا. الطرابلسيون أهلنا وحبايبنا». وهذا أمل أكثر من كونه خطاباً. بيد أن في الأشرفيّة الحسابات أكبر. «مدينة بشير لا يمكن أن تكون مع الأسير»، تقول قواتيّة حتى النخاع. برأيها: «الحكيم يناور». هذه القواتيّة الفريدة، التي تتمنى أن يحدث تحالف «عجيب» بين حزب الله والقوات، والتيار الوطني الحر أيضاً. للوهلة الأولى، يبدو ظهور مثل هذه الآراء، من هؤلاء الشبان، محاولة أخيرة لتفادي الحرب. والحرب لا يمكن تفاديها بالآراء المعلنة في الحانات. ربما كان، على حزب «الكتائب» مثلاً، أن ينصت أكثر إلى قواعده، وإلى «مصلحة الطلاب» في الحزب مثلاً، التي كانت من أول الداعمين أول من أمس للجيش، قبل أن يخرج النائب سامي الجميّل ويعلن تأييده للجيش. على سبيل النكتة، يقول كتائبي على «تويتر»: «المسيحيي خايفين يا خيي». وهي ليست مضحكة إطلاقاً. هذا كلام بمنتهى القسوة، ولكنه صار متداولاً.
قد يحسب هذا كله طائفياً. وقد يقال إن هذه قراءة أقلويّة لمجتمع بالغ التنوع. ولكن مهلاً. لبنان ليس بلداً إسكندنافيّاً. إنه في منتصف هذا السعار المذهبي الذي ينفلش كبقعة زيت. وفي 1975 اندلعت الحرب لأن الناس لم يفهموا معنى المجتمع. وإذا تكومت الجثث فوق بعضها لا يعود رشق النواب بالبندورة، عملاً كافياً. فهم المجتمع أَولى، إذ إن النواب على صورة المجتمع. هذا إن كانت هناك أي نيّة، لتجنيبه السيارات المفخخة. ربما وجب الإنصات إلى « القواعد» قبل أن تنفجر. وقبل إلقاء اللوم على «جماعة» يحاول «الأسير» أن يسطو عليها، أو يتحدث باسمها، وقبل «تكفير» جماعة أخرى، على الجميع أن يفكر طويلاً، ماذا يمكن أن يقال لأمهات جنود الجيش، وهنّ يرسلن عيونهنّ الصامتة مع تلك التوابيت الطريّة إلى أبديّة مبكرة.