يوم كانت غالبية ساحقة من المسيحيين تحتفل بالمصالحة والتوافق المسيحيين المكرسين في معراب، عصر 18 كانون الثاني الماضي، كان البعض من العارفين بمكبوتات السياسة اللبنانية، يرسم علامة قلق مفادها: هل يؤدي هذا الحدث بالذات إلى تطيير الرئاسة من المسيحيين؟!
قامت الحروب اللبنانية كلها تقريباً على فالقي إشكاليتين اثنتين: أولاً إشكالية السلطة بين المسيحيين والمسلمين في الداخل. وثانياً إشكالية السيادة بين لبنان ومحيطه، بدءاً بسوريا في الخارج. وبعد آلاف الضحايا والدماء والأثمان العبثية والمجانية أحياناً، فُرض اعتقاد مفاده أن اتفاق الطائف أوجد الحل الممكن للإشكاليتين معاً: توازن في السلطة بين الجماعتين، وتعاون مع سوريا من ضمن السيادة للبلدين. حل شهد طيلة زمن الوصاية اعتواراً في التطبيق، جعل بعض آباء وثيقة الوفاق الوطني يكتبون منذ أيامها الأولى أن ما طُبِّق هو انقلاب على الطائف.
فحول استمرار إشكالية السيادة، يروي أحد المسؤولين اللبنانيين السابقين والصادقين، أنه مطلع العام 1992 كان في واشنطن بصفته الرسمية آنذاك. وكان قد أطل العام الثاني على إقرار التعديلات الدستورية الشهيرة، التي ربط الطائف بها، بدء إعادة تمركز القوات السورية وخروجها حتى مداخل البقاع. فاعتبر المسؤول المذكور أن واجبه الوطني يقضي بتذكير عاصمة حكم الأرض بتاريخ الاستحقاق المرجو بعد أشهر قليلة. قام بجولة على مسؤولي الإدارة الأميركية. من البيت الأبيض إلى وزارة الخارجية إلى الكونغرس وصولاً إلى الأجهزة الحكومية كافة. طرح معادلته البسيطة: أنتم من رعاة الطائف. الطائف قال إنه بعد سنتين يبدأ الانسحاب السوري. الموعد في أيلول المقبل. تفضلوا إذن وساعدونا على الالتزام بالمهل والإيفاء بالعهود. لم يسمع المسؤول اللبناني أي جواب شاف. حتى وصل إلى البنتاغون. هناك، حيث العسكر ولهجة الإمرة والتنفيذ وشفافية القول والفعل، كرّر المسؤول عرضه. فكان الجواب – الصدمة: يبدو أنكم لم تدركوا فلسفة الطائف لهذه الناحية. فبمعزل عن النصوص والصياغات والخطابات، الأساس هو في النفوس والحسابات والخلفيات. وفي فلسفة الطائف هذه، ليس المطلوب انسحاب سوريا من لبنان. بل بقاؤها فيه... وهو أصلاً ما عاد وكتبه صراحة أوري ساغي بعد أعوام قليلة!
المهم أنه في 26 نيسان 2005، حلت تلك الإشكالية. لأسباب متشعبة وسياقات مركبة، انسحب الجيش السوري من لبنان. عادت السيادة ولو نظرياً. وقامت فلسفة سيادية جديدة لاتفاق الطائف، عنوانها أن لبنان في لبنان وسوريا في سوريا. مع أقصى التعاون بينهما في شتى المجالات. لكن بقيت الإشكالية الأخرى: ماذا عن التساوي والمناصفة في السلطة بين المسيحيين والمسلمين؟
حملت هذه الإشكالية أثناء الوصاية عنواناً مبطناً هو قانون الانتخاب. ليتحول بعد زوال الوصاية أزمة، وليضاف إليه عنوان آخر هو رئاسة الجمهورية. والعنوانان ظلا عالقين بين نص الطائف الميثاقي، ومكبوتات فلسفته النفاقية. ففي زمن الوصاية قيل كثيراً وتردد غالباً وطبق دوماً القول إن قانون الانتخاب هو جزء عضوي ومؤسس من فلسفة الطائف. بأي معنى؟ بمعنى أن المسلمين الذين شاركوا في الطائف، ما كانوا ليوافقوا يومها على المناصفة في عدد النواب ولا حتى الوزراء، بينهم وبين المسيحيين. نظراً إلى الفارق الديمغرافي بين الجماعتين. وهو الفارق الذي أبدع أهل الطائف في تعميق خلله بالتجنيس والتهجير. غير أن هؤلاء أقروا على الورق بذلك التساوي الرقمي، شرط أن يستعيدوا قسماً من تلك الأعداد الورقية عبر التطبيق الفعلي. أي عبر قانون الانتخاب. بحيث يظل هذا القانون مكرساً لنسبة معينة من النواب المسيحيين، الملتحقين بالزعامات المسلمة، ترشيحاً وانتخاباً وولاء سياسياً. حتى بدا أن هذه الفلسفة المكتومة والمكبوتة للطائف، هي شرط لمقولة أننا أوقفنا العد. وأن أي عودة عنها تعني حكماً العودة إليه وإلى مفاعيله في النظام والسلام والحرب!
بعد زوال الوصاية برز الشق الآخر من الإشكالية الداخلية: من يكون رئيس الجمهورية وفق الطائف؟ ومع طرح هذه المعضلة كانت عوامل كثيرة قد تغيّرت ضمن المشهد اللبناني. المسيحيون استعادوا جاهزيتهم السياسية. والمسلمون توزعوا على جماعتين ضمن صراع مرير ولد لبنانياً لحظة استعادة السيادة، قبل أن يتفجر إقليمياً مع اندثار مفهوم الدولة السيدة في كل المنطقة. وسط هذا المشهد الجديد، صار ثابتاً أن أكثرية السنة هي من تختار ممثلها في السلطة. أكثرية الشيعة كذلك. أكثرية الدروز ترتضي بما ترك لها، مع قدرة دائمة على جعالات سياسية نتيجة التناقضات. بقي المسيحيون: من يختار ممثلهم في النظام؟ على مدى 11 سنة من أعوام ما بعد الوصاية، بدا أن مسألة رئاسة الجمهورية خاضعة في مفهوم البعض، لفلسفة مماثلة لفلسفة قانون الانتخاب. كأن هناك من يفكر في كوامنه ومكبوتاته، أننا ما كنا لنترك لكم في الطائف حتى هذه الرئاسة الضحلة. لكننا قبلنا بذلك، شرط أن نكون نحن من يختار الرئيس. وأن نختار نحن، يعني أن نختار الأضعف من بينكم. أكان عسكرياً، فيكون أضعف ضابط لديكم. أم مدنياً فيكون أضعف سياسي مسيحي. وطيلة تلك الفترة، ظلت هذه القراءة المكبوتة للطائف مقنعة بحجاب ثقيل، بكل معاني الثقل، ألا وهو انقسام المسيحيين وعدم توافقهم على ترشيح الأقوى.
في 18 كانون الثاني الماضي، سقطت تلك المعادلات. صار التوافق المسيحي حقيقة. وصار الأقوى مرشحاً. فصار في ذهن أصحاب تلك القراءة أن ما حصل هو انقلاب على تلك الفلسفة للطائف. وهو ما ولد في مكنوناتهم شعوراً بأن كل وسائل الحرب مشروعة ومسموحة، لمنع هذا الانقلاب. هكذا اعتبر البعض أن اتفاق معراب قضى على رئاسة عون. لا بل طيّر الرئاسة من المسيحيين. لكن من يقول لهؤلاء إن ما يلعبون به هو أكبر وأخطر؟! فإما توازن الوطن وإما اندثاره، تماماً كما يحصل في محيطه.