غزّة | فلسطينيون. معجونون بزيتون البلاد، وترابه الخشن يلوّن بشرتهم. ما كل هذا الإصرار على البقاء أحياءً في ذاكرة القرى، والمنزل، وشجر الزيتون؟ كيف للفلسطيني كل هذا الأمل في الذكرى وحق العودة، والاحتفاظ بمفتاح جاوز عمره سبعة عقود من الزمن؟ «لو سألتني شو تعشيت مبارح، بقلك والله ما أنا فاكر. ولو سألتني شو اسم أحفادك بقلك بلخبط فيهم. أنا يا بنتي عمري 88 سنة. ذاكرتي ضعيفة. بس عمري ما بنسى بلدي ولا بيتي ولا زيتونتي الي سرقها الصهيوني الحقير».
هكذا امتلأت ذاكرة الحاج أبو عاطف الملاحي بأرضه وأرض آبائه وأجداده. هذا الإرث التاريخي الذي لن ينساه، رغم أنه يعاني بوادر الزهايمر: «سهل علي أنسى اسمي، بس لو أموت ما بنسى أرضي». أبو عاطف عاش أحداث النكبة عام 1948 في ريعان شبابه، حيث كان يدرس الحقوق في القاهرة، وحين سمع ببوادر هجرة اليهود إلى فلسطين، عاد ليلتحق بصفوف الفدائيين، للدفاع عن أراضيهم. يقول: «كانت عصابة الهاغاناه الصهيونية، تحيط بالقرية من ثلاث جهات، وتطلق الرصاص بالهواء قبل دخولها، وتهجير أهلها عنوة، وإحراق منازلهم تنفيذاً لأوامر عليا»، مضيفاً أنه سمع اعتراف أحد عناصر الهاغاناه، وهو يشير إلى جثة فتاة، قائلاً: «إنه قتلها برصاصة في الرأس، بعد أن اغتصبها».
لا تغيب عن ذهن أبو عاطف، الذي ينحدر من مدينة اللد، مذبحة دهمش التي أودت بحياة ما يقارب سبعين شخصاً، يقول: «كما سمعت من جدي، أن جندياً صهيونياً كان يسترق السمع من داخل المسجد، قبل أن يفتح الباب بهدوء ويطلق صاروخاً على المصلين. تطايرت الجثث والتصقت لأن وقع الانفجار كان شديداً، وهذا ما دفع الكثيرين من الأهالي إلى مغادرة المدينة نحو رام الله. وقد مات في الطريق عدد من الشيوخ المسنين، تعباً وعطشاً».
ولا تزال الحاجة فاطمة عيسى (78 عاماً) تذكر كل زاوية من بلدتها حتا في قضاء المجدل، حيث وُلدت وعاشت طفولتها فيها. وما بين بكائها حيناً وصمتها أحياناً أخرى، تتحدث كما تتحدث الأرض، مستنكرة سرقتها واغتصابها وتبديل ألوانها. طوال حياتها، التي عاشتها خارج حتا، لم تعرف سوى بؤس حياة التشتت داخل المخيمات. تقول: «كان البيت أوسع من أن نعيش فيه وحدنا. كنا نستقبل أهلنا وأقاربنا للمبيت فيه». أما اليوم، فتعيش في بيت والد زوجها الضيق مع ابنها الأكبر وأحفادها، في مخيم رفح للاجئين جنوب قطاع غزة.
الذكريات بالنسبة إلى فاطمة لا تغيب عن عينيها، وإن اهتز صوتها بيأس، فهي ممن عاشوا هنالك أكثر مما عاشت في مخيم رفح. تقول: «الحياة لا تحسب بعدد السنوات التي عشتها، ولكن بتلك التي عاشتني، محاطةً بعائلتي ودونمات الزيتون والبرتقال. المفتاح وطابو الأرض والأوراق التي تثبت ملكيتنا للقرية وشهادات تسجيل الملكية، جميعها لا تكفي، وقد لا تكون مقنعة لأطفالنا وأحفادنا من الجيل الجديد. الميراث الحقيقي لهم هو شهادة اشخاص بدأوا بالزحف نحو الموت».
«رغم مرور الزمن، ظللنا متمسكين بأي بادرة أمل تروي عطشنا بنجاح الفلسطينيين والمفاوضات. كان أبي يضع مفتاح منزلنا تحت مخدته مطمئناً مرتاح البال»، تقول فاطمة. وتضيف: «في إحدى المرات التي سمح لنا فيها الجيش الإسرائيلي بزيارة القدس، ذهبت مع إخوتي الثلاثة، ولأنني الفتاة الوحيدة بينهم، كنت أشعر بالسعادة لأنني سأمرّ على الطريق بحتا، وإن لم أزرها فسيزورنا هواؤها أثناء المسير». التقطت قطعة سوداء من القماش مغلقة بإحكام وفتحتها لتكشف عن حفنة من التراب: «كنز لا يقدر بثمن».
الحاج أبو حسني، أحد مخاتير البلدة، يذكر تفاصيل ذاك اليوم، حتى إنه يذكر بالحرف ما كان مكتوباً في البيان الذي ألقته إحدى مروحيات القوات اليهودية على القرية، يقول: «بيان عسكري إلى أهل قرية برير، لقد احتلت قوات الهاغاناه مركز المدرسة، وعلى جميع المسلحين أن يرفعوا الرايات البيضاء ويسلموا أسلحتهم لقيادة الهاغاناه في المدرسة في مدة أقصاها نصف ساعة، وإلا فستقوم قيادة الهاغاناه بتدمير القرية بمدافعها الثقيلة. التوقيع حاييم».
كان أبو حسني في الصف الخامس حين قرأ البيان. أُصيبت القرية بالهلع، وخرج هو وأمه وإخوته مع أهل القرية إلى بطيمة والجورة، وبعد بضعة أيام عاد مع والده لإحضار الطعام، لكنهم فوجئوا بالنيران تأكل القرية، فيما جثث المقاومين تملأ شوارعها.
غادر الناس إلى غزة، كانت خيامهم من القماش، وحين جاء فصل الشتاء تمزقت الأقمشة، وأصبحوا في العراء نياماً. في عام 1950 جاءت وكالة الغوث، وفي أواخر كانون الأول من العام نفسه، صدر القرار 194 بحق عودة اللاجئين وتعويضهم. يقول أبو حسني: «أجت الوكالة وبنت للناس بيوت من طينة بعد ما تمزعت الخيام، فلما نزل المطر مرة تانية نزلت الطينة فوق رؤوسنا، لأنها لم تكن مخلوطة مع القصل وهو عيدان القش الطويلة التي تمنع الطينة من التفتت. لكن بعد ذلك وضعت الوكالة زفتة فوق الطينة لعزل المياه. كنت اعمل في وضع الزفتة على الطينة وكنت ارندح حينها: حملت الزفتة ثم الزفتة، ولست غضبان فهذا بختي، فأنا أنام على التراب وغيري ينام على تختي».