نابلس | بعيداً عن صخب المهرجانات، والاحتفالات الراقصة، ثمّة من يتذكّر النكبة بصمت. في مخيم عسكر قضاء نابلس، تتشابه الأبنية والبيوت، وفي كل بيت حكاية، ومع كل قصة تُروى، تتوارث الأجيال الحلم، وتحمل معها ذاكرة الأجداد نحو القرى، التي لطالما سمعوا عنها في ليالي الغربة.
برقوق قالونيا

تموز عام 1968. كان قد مرَّت عشرون عاماً لم تذق فيها الحاجة فاطمة الخطيب برقوق قالونيا؛ القرية التي هُجرت منها بعد نكبة عام 1948. كان فناء دارها هناك جنة ملأى بالأشجار والحبوب من كل صنف ونوع. لكن شجرة البرقوق، التي كانت تحدّ السور الفاصل بينها وبين جارها اليهودي الهارب من معسكرات الاعتقال في ألمانيا إلى «أرض الميعاد»، كانت تحتل مكانة خاصة في قلبها؛ فقد كان الجار اليهودي يتحين فرصة ذهابها إلى الحقل، ليتسلق الجدار، ويملأ سلاله بالبرقوق. وعندما ضبطته ذات مرّة، رفض أن يُعيد ما سرق، ورد بعربية ركيكة: «روح. روح. انتا بكرا بيسافر يحج على الحجاز وكل هاي الأرض بصير إلي».
عندما تركت الحاجة فاطمة القرية في نيسان، كانت ثمار البرقوق لا تزال نوّاراً، لكن لا بد وأنها نضجت الآن تحت شمس تموز الحارقة. ولأن الوصول إلى قالونيا أصبح ممكناً بعد احتلال إسرائيل للضفة عقب نكسة 67، حيث لم يكن ذلك متاحاً إبان الحكم الأردني، قرّرت اصطحاب ابنتها، أم عماد، وحفيدَها، والعودة إلى هناك.
عندما وصلت إلى تخوم قالونيا، احتاجت وقتاً لتتيقن أنّ هذه هي القرية التي أبصرت فيها نور الحياة، وأمضت 30 عاماً بين حقولها. غريزة ما، تُشبه غريزة الأم في التعرّف إلى ابنها، ساعدتها لتدرك ما حدث: المقبرة، شقّوا طريقاً عريضاً في وسطها. ومعظم حقول المزروعات، مسحوها وأقاموا عمارات ضخمة في مكانها. أما بيوت القرية، فلم يبقَ منها إلا ركام حجارتها المهدمة. وما إن همّت بالدخول إلى حقول الأشجار، حتى عاجلها أحد اليهود القاطنين في المكان ببندقيته المصوّبة نحوها، متمتماً بعربية لثغاء :«جايين تسرقوا اه يا عرب». تذكّرته الحاجة فاطمة من الوهلة الأولى، هو نفسه «إبراهام بيرغ»، الجار اليهودي في قالونيا. كان المشهد مؤلماً. سارق البرقوق القديم يأمر أصحاب الأرض بألا يسرقوا. بالكاد استجمعت قواها وقالت: «ابراهام، نزّل بارودتك. مش ذاكرني يا ابراهام؟ أنا فاطمة الخطيب الي كنت تسرق منها البرقوق، أنا بدي أبصملك بالعشرة يا ابراهام. العرب خانونا وكل هاي الأرض صارت الك».
بعد هذا المشهد، تحول برقوق البلاد من حلو المذاق، إلى مرارة أبدية في الذاكرة. تروي ابنتها، الحاجة أم عماد، التي حضرت الزيارة، كيف انتهى ذلك اليوم. تقول: «عندما وصلت أمي إلى بيتنا القديم، وجدته حطاماً، جثت هناك وقبضت بيديها على حجارة الدار، ثم دوى صدى بكائها في المكان، وهي تنادي: وينك يابا؟ وينك يا عمي؟ وينك يا خالي؟».
لم تعد الحاجة فاطمة إلى قالونيا بعد ذلك. تلك الزيارة نكأت جرحاً قديماً لديها، وكأنها استغرقت عشرين عاماً لتستوعب ما حدث. تقول أم عماد: «مرضت أمي بعد هذه الزيارة، واختلف حالها. كانت قد أخذت حجراً من ركام البيت معها إلى المخيم، وكلما تذكرت البلاد بللته بالدمع. وهكذا ظلت تبكي وتكابد المرض حتى ماتت».
كانت أم عماد في الثانية عشرة من عمرها وقت النكبة. اليوم بعد أن ضعُف سمعها ولم تعد تتوارد إليها أخبار العالم، باتت السنوات التي شارفت على الثمانين من عمرها مختزلة في اثني عشر عاماً عاشتها في قالونيا. تتذكر سنوات عمرها الأخيرة في قالونيا بأدق تفاصيلها، ولا تملّ من تردادها يومياً. تقول لـ«الأخبار»:«أياماً قليلة قبل خروجنا من قالونيا، فاجأتني أمي ذات صباح بقولها: أنت الآن أصبحت امرأة. وألبستني الثوب الفلسطيني المطرز، وحرمتني اللعب مع الفتيات، ثم علمتني الخياطة والعجين وأعمال البيت، بعد ذلك خطبت، وما هي إلا أيام قليلة حتى حلت النكبة».
وكيف تركتِ قالونيا؟ تجيب: «حدثت المعركة في منطقة اسمها الغربيات، الثوار من أبناء البلد لم يكونوا يملكون سوى بنادق قديمة، وبعض الفشكات، لأن الإنكليز كانوا يعدمون كل من يملك قطعة سلاح. أطلق الثوار «الفشكات»، وبدأت بعدها تصلنا الأخبار عن سقوط القرية. ولأنني أصبحت كبيرة الآن، أمسكت يد أختي الصغيرة، وتركت الثانية تتعلق بثوبي الجديد. وفي الطريق، انهالت علينا زخات الرصاص من منطقة «القبانية»، والله قدّر لنا النجاة، حتى وصلنا إلى قرية بيت نقوبا المجاورة، وهناك مكثنا سنة ونحن نسمع الكلام ذاته: مسألة يومين وتعودون، حتى وجدنا أنفسنا لاجئين في مخيم عسكر قرب نابلس». تتنهد بحرقة ثم تستدرك: «مش لو متنا يومها أحسن من هالعيشة يما؟».

قاقون... طريق الساحل

تتشابه البيوت في مخيم عسكر، قرب نابلس، لكن في كل بيت ثمة حكايات مختلفة، والألم واحد. في بيت أبو عدنان الحافي المنزوي في أحد دهاليز المخيم، أول ما يقع عليه بصرك هو صورة ضخمة احتلت حيزاً كبيراً من الجدار، مرسوم عليها مخطط تفصيلي لقرية قاقون، بكل شوارعها، وأزقتها، وبيوتها. وإلى جانب كل بيت، وُضع اسم صاحبه. القرية، التي باتت أثراً بعد عين الآن، لا تزال كما كانت عليه قبل 65 عاماً في ذاكرة الحاج الثمانيني، الذي كان لا يزال في سن الثالثة عشرة عندما وقعت الواقعة.
يقف أبو عدنان بمحاذاة الصورة، ويبدأ بالشرح. هنا كان بيتنا في القرية. وهنا بيت أبو مرعي. وهناك المدرسة. ومن هذا الطريق كنا ننقل حصاد البيّارات إلى مدينة الخضيرة على الساحل، حيث نبيعه هناك. يواصل التحديق في الصورة، ويتحدث عن آخر يوم في قاقون: «كانت قرى الساحل تسقط واحدةً تلو الأخرى، حتى جاء الدور على قريتنا. بدأ الهجوم من الجهة الغربية من هنا. وهناك عند البيّارات في الجهة الشرقية اختبأنا، وأخذنا نراقب سير المعارك بين الجيش العراقي والثوار من جهة، والعصابات الصهيونية من جهة أخرى، حتى أتتنا أخبار الهزيمة. تركنا القرية ولجأنا إلى قرية العقربانية المجاورة. وبعد النكسة وانسحاب الجيش الأردني، مضينا إلى مخيم عسكر».
يقول أبو عدنان إن «خيانة» القيادات هي ما سبب الهزيمة. «كان المقاتلون العراقيون أشداء. وكانوا يدربون أهل القرية على السلاح. حققوا انتصارات كبيرة ووصلوا حيفا. لكن القيادات كانت فاسدة. كنا بحكم معرفتنا في المواقع نخبرهم عن أماكن العدو، والنقاط الحساسة في القرية، لكن الإجابة كانت دائماً: ماكو أوامر».
لا ينتظر السؤال عن حق العودة، يقول بلا هوادة: «لو أعطوني كل كنوز الأرض مقابل حفنة تراب من قاقون سأرفض». يرفض كلام أبو مازن عن صفد؟ ويقول: «لا أؤمن بالسلام، ولا بكلام الرئيس». يؤمن بالشباب، لكن «أخشى عليهم من الضياع، لأنه لا توجد قيادات تحمل المسؤولية».

يختصر الحكاية

مرت خمسة وستون عاماً، ولا يزال أبو محمد ينتظر يافا. تزوج وكوّن عائلة، ثم عمل في البناء ليعيلها، وهناك فقد إحدى عينيه، وظل قعيد المنزل. يقول: «بتتذكروناش الا بهاليوم. شو بدكم تعرفوا يعني. انضحك علينا. وصدقنا الكذبة. وهيك راحت البلاد مثل عشاك مبارح». يهمهم قليلاً، ثم يضيف بنبرة خافتة: «كنا صحاب أراضي، صيادين، مزارعين، برتقال البيارات كان يكفينا. اليوم صرنا نشحد مؤن، هي القصة ببساطة».
في مخيم عسكر قرب نابلس، كل شيء في هذا الحيز الضيق يذكرك بأنك لاجئ. صور الشهداء على الجدران. أسماء القرى المنكوبة التي خطت على أبواب البيوت. ضحكات الناس الخجولة مؤجلةً الفرحة إلى يوم الغد، علّه يكون يوم العودة. الأطفال الذين اتخذوا من زقاق ضيق بين منزلين مسرحاً لألعابهم، ومخبأً لأسرارهم، والشيخ، الذي يعلق خريطة فلسطين في بقالته، ويحدثك، قبل أن يرد إليك فكة النقود، عن ضياع البلاد، وآرائه السياسية في كل ما يجري في العالم. تنظر في عينيه الغائرتين في الماضي، فتتذكر قول درويش: «ما دامت فلسطين محتلة، فستبقى دائماً تحتلّني».