كل التهديدات السعودية، المعلن منها والمبطّن، لم تصل مفاعيلها إلى سوق القطع، اذ بقي الطلب على الدولار ضمن حدوده الاعتيادية، فيما أوضح مصرفيون لـ«الأخبار» أنه ليست هناك مؤشرات على انسحاب ودائع خليجية من مصارف لبنان، علماً بأن أكثر التقديرات تفاؤلاً تشير إلى أن حجم هذه الودائع لا يتجاوز 2% من مجموع الودائع المصرفية البالغة 158 مليار دولار.
يقول مصرفيون إن المؤشّرات التي ظهرت خلال الاسابيع الماضية تبين ان هناك ازمة في السعودية قبل ان تكون هناك ازمة بينها وبين لبنان. ابرز هذه المؤشرات إصدار وكالة التصنيف الأميركية ستاندر أند بورز تقريراً يتضمن خفض التصنيف الائتماني للسعودية من A+ إلى A-. تلاه خفض تصنيف كبريات الشركات السعودية، ولا سيما الشركة السعودية للكهرباء والشركة السعودية للصناعات الأساسية (سابك) وشركة الاتصالات السعودية و11 مصرفاً سعودياً، بينها البنك الأهلي التجاري الذي أغلق فروعه في لبنان أخيراً، وبنك الرياض والبنك العربي الوطني، ومصرف الراجحي الذي تحوم حول مؤسسه تهم تمويل الإرهاب... وبالتالي لم يكن مفاجئاً أن تقوم السعودية، وفي ظل عجز موازنتها السنوية بأكثر من 83 مليار دولار، بخفض العمالة الأجنبية على أراضيها ووقف الإنفاق على المشاريع الاستثمارية، وهو ما سيؤدي بشكل تلقائي إلى صرف الموظفين ولا شكّ أن بين هؤلاء لبنانيين أيضاً.
ما حصل عملياً، هو أن كل هذه التهديدات السعودية كان لها غاية واحدة، وهي أن تتحوّل إلى مصدر قلق يتوزّع على أكثر من صعيد. فمن جهة، برزت مخاوف جديّة من قيام بعض المصارف بخلق طلب وهمي على الدولار من خلال تقديم النصح لزبائنها بتحويل ودائعهم من الليرة إلى الدولار وإيداعها في فروعها خارج لبنان. ومن جهة ثانية، أعرب عدد من أصحاب رؤوس الأموال وممثلي غرف التجارة في بيروت وجبل لبنان عن قلقهم من أن تصبح الاستثمارات اللبنانية في الخليج، وخصوصاً تلك المملوكة منهم مباشرة، ضحية هذا التوتّر في العلاقات وأهدافاً للحملة المجنونة التي يقودها آل سعود.
السعودية تتقاضى فائدة بنسبة 3% على وديعتها

اما بالنسبة للأنباء المتداولة عن قطع خطوط الطيران أو خفض عدد الرحلات بين لبنان والسعودية فلم يكن الأمر وارداً، إذ إن نقابة أصحاب مكاتب السفر في لبنان كانت قد أجرت اتصالات قبل يومين بإدارة الطيران السعودي وسألتها عن امكان مثل هذا التصعيد، فأتتها الإجابة بأن الأمر غير وارد، وخصوصاً أن خطوة من هذا النوع تعدّ كبيرة جداً، إلا أن تسريب مثل هذا الخبر يظهر حدّة التوتّر والمدى الذي قد تبلغه هذه الحملة التي ستطيح حلفاء السعودية في لبنان قبل أخصامها. فالامر استدعى إصدار توضيح على لسان رئيس المطار فادي الحسن ينفي فيه «تلقي أي إشعار أو طلب، حتى الآن، من قبل الخطوط الجوية السعودية، يتعلق بإيقاف أو تعليق رحلاتها الجوية من والى لبنان. لقد أجريت اتصالا بأحد مسؤولي الشركة المذكورة في بيروت الذي نفى بدوره هذه المعلومات التي تتناقلها بعض وسائل الاعلام حالياً».

التهويل والابتزاز

إذاً، ما هي جديّة الكلام المتداول عن سحب السعودية مبلغ مليار دولار كان مودعاً لدى مصرف لبنان منذ حرب تموز؟ يكتفي وزير المال علي حسن خليل في اتصال مع «الأخبار» بعبارة واحدة للتعليق: «لم يفاتحنا أحد بموضوع كهذا لا خارجياً ولا داخلياً». أما في مصرف لبنان، فيقول مصدر مطلع إن الحديث المتداول عن سحب الوديعة «لا يتعدّى كونه استنتاجات لا مؤشّرات فعلية عليها». المصدر يستبعد أن تلجأ السعودية إلى سحب الوديعة، ولا سيما أنها لم تبلغ مصرف لبنان بأمر كهذا لا شفهياً ولا خطياً ولا عبر وسطاء يمهّدون لبدء عملية السحب وترتيباتها التقنية.
في الواقع، يكتنف موضوع سحب الوديعة السعودية الكثير من المغالطات والتهويل والابتزاز. تاريخ الحساب السعودي لدى مصرف لبنان يعود إلى مطلع التسعينيات حين أودعت الحكومة السعودية مبلغ 500 مليون دولار لدى مصرف لبنان، ثم أودعت مبلغاً مماثلاً بعد حرب تموز 2006 في حساب آخر يختلف عن الأول بأنه منتج للفوائد. يومها صنّفت الوديعة السعودية ضمن «المكرمات»، إلا أنه في الواقع كان خافياً على الكثيرين أن الحكومة السعودية فاصلت وشارعت على نسبة الفائدة التي ستحصل عليها لقاء إيداع مبلغ لدى مصرف لبنان، ثم عمدت إلى نقل وديعتها الموضوعة في التسعينيات من حساب غير منتج للفوائد إلى حساب منتج للفوائد بمعدّل 3% سنوياً. وهذه المفاصلة على الفائدة جاءت في وقت كانت فيه أسعار الفائدة العالمية في أدنى مستوياتها وتقارب الصفر، أي إن إيداع مليار دولار كان عبارة عن صفقة مربحة إذ كانت كلفة الوديعة السعودية على مصرف لبنان 30 مليون دولار سنوياً.
وإلى جانب الوديعة السعودية كانت هناك وديعة إماراتية بقيمة تزيد عن 250 مليون دولار، ووديعة قطرية بقيمة 60 مليون دولار ووديعة كويتية بقيمة 500 مليون دولار. لكن في السنوات الماضية، ومع بدء الإمارات برامج الترحيل المنتظمة للبنانيين العاملين لديها، سواء بسبب الأزمات العقارية والمالية التي ضربتها في السنوات الماضية، أو لأسباب سياسية الطابع، سحبت الإمارات وديعتها من لبنان من دون أي ضجّة ومن دون أي تأثير أيضاً. وقد عمدت الحكومة السعودية إلى سحب قسم من وديعتها أيضاً من دون ضجّة ومن دون تأثير. فبحسب المعطيات المتداولة، لم تواظب الحكومة السعودية على توظيف هذا المبلغ بكامله لدى مصرف لبنان، فمجموع الودائع الخارجية الموظّفة لديه (خليجية وغيرها) كانت تبلغ مدرجة ضمن بند «التزامات أخرى طويلة الأجل» قيمتها كانت 1899.9 مليار ليرة (1.260 مليار دولار) في نهاية 2013، ثم انخفضت إلى 1589.1 مليار ليرة (1.060 مليار دولار) في نهاية 2014، وبلغت 1296.6 مليار ليرة (860 مليون دولار) في أيلول 2015.

لا أزمة نقدية

تثير هذه الضجّة المقصودة تساؤلات بين أوساط السياسيين والمصرفيين، فهل ثمة معطيات كافية تبرّرها؟ هل سيؤدي سحب الوديعة إلى أزمة نقدية في لبنان؟ يعتقد الخبير الاقتصادي سمير الضاهر أن «مصرف لبنان لديه ترسانة من الاحتياطات المالية بالعملات الأجنبية تقارب الـ37 مليار دولار، وبالتالي فإن الحسابات تظهر أن سحب مبالغ من مصرف لبنان بحجم الوديعة السعودية، لا يمثّل أي خطر، أي ان الأثر الذي سيتركه سحب الوديعة، على ميزانية مصرف لبنان وموجوداته يعدّ طفيفاً جداً. أصلاً لماذا هذه الوديعة لا تزال موجودة لدى مصرف لبنان؟ إذ إن تأثيرها المادي والعملي غير ملحوظ، فيما التلويح بسحبها اليوم يرقى إلى الحرب المعنوية، ولا يمكن تفسير قرار كهذا إلا من زاوية سياسية».
مقاربة الضاهر للتهديدات بشأن سحب الوديعة، ليس أمراً معقداً، إذ إن الودائع الخارجية المودعة لدى مصرف لبنان لا تمثّل أكثر من 2% من احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية. هذا الأخير اعتمد في العقدين الأخيرين على سياسة جمع العملات الأجنبية بطريقتين؛ الأولى من خلال قانون النقد والتسليف الذي يلزم المصارف اقتطاع 15% من المبالغ المودعة لديها بالعملات الأجنبية وإيداعها لدى مصرف لبنان ضمانة لأموال المودعين. أما الطريقة الثانية، فهي متصلة بالهندسات المالية التي يقوم بها مصرف لبنان من خلال تدخلّه في السوق، إذ إنه يعمد إلى ترك هامش واسع بين الفوائد على الودائع بالليرة، والفوائد على الودائع بالدولار، ليحفّز حركة تحويل التدفقات النقدية الآتية إلى لبنان من الدولار إلى الليرة. في هذا الوقت يجمع مصرف لبنان الدولارات من السوق ويخزنها في محفظته. كذلك، لدى مصرف لبنان أدوات مالية أخرى تتيح له جمع الدولارات التي فضّلت عدم التحوّل من الدولار إلى الليرة، من خلال إصدار شهادات إيداع بالدولار تكتتب فيها المصارف بالاموال المودعة لديها.
ولا يخفي حاكم مصرف لبنان رياض سلامة كلفة تكوين الاحتياطات بالعملات الأجنبية، إلا أنه يرى فيها كلفة ضرورية نظراً لما تتركه من انطباعات إيجابية في السوق وتعزّز استمرار النظام النقدي والمالي المتبع، فهي تحفّز استقطاب الدولارات من الخارج ليجمعها ويستعملها في إطار سياسة تثبيت سعر صرف الليرة في مواجهة الطلب على الدولار.

خلق الأزمة

إذاً، هل يعني ذلك أن الهدف من التلويح بسحب الوديعة السعودية تهديد جدّي لسياسة تثبيت سعر صرف الليرة؟ يقول خبير مطلع، إن بعض المؤشرات التي ظهرت خلال اليومين الماضيين في السوق تصبّ في هذا الاتجاه وتشبه إلى حدّ كبير بداية ما حصل في مطلع التسعينيات. فقد عمدت بعض المصارف إلى إقناع بعض الزبائن بتحويل أموالهم إلى الدولارات وسحبها إلى فروعها الخارجية. حجّة المصارف والزبائن أن هذه الخطوة تضمن سلامة ودائعهم وتهريبها قبل أن تكبر الأزمة، وتزيد الطلب على الدولار. لكن حقيقة ما فعلته هذه المصارف هو أنها حفّزت الطلب على الدولار في السوق، أو على الأقل أوحت بأن الخطوات السعودية ستزداد حدّة، وأن الأزمة ستكبر كثيراً وستؤثّر سلباً في الأوضاع النقدية والمالية. ويقول الخبير: «لقد فعلوها في مطلع التسعينيات، وخلقوا طلباً وهمياً على الدولار ونفذوا عمليات مضاربة جنوا منها أرباحاً طائلة فيما غرق لبنان بأزمة نقدية سرعان ما تحوّلت إلى أزمة اقتصادية واجتماعية. ما هو مقلق اليوم أن يفعلوها مجدداً برغم كل الاحتياطات التي يأخذها مصرف لبنان».
في المقابل، يذهب بعض المصرفيين في اتجاه القول إنه على السعودية سحب الوديعة لتخلّصنا من إحدى أدوات التهويل على لبنان وبهدف تقليص قدرتها على ممارسة الضغوط، فالأثر الوحيد الذي يتركه سحب الوديعة يتمثّل في زيادة عجز ميزان المدفوعات.

مصدر القلق

ليس خلق طلب وهمي على الدولار هو الأمر الوحيد المقلق في لبنان من التصعيد السعودي، فثمة من يعتقد في مصرف لبنان أن الضربة الكبرى ستكون في حال المسّ بالمغتربين العاملين هناك، فعلى الرغم أن عددهم غير دقيق، إلا أن التحويلات الآتية من تلك البلدان تصل إلى 3 مليارات دولار، وهي تأتي في غالبيتها إلى الأسر اللبنانية. وبالتالي فإن ضربة كهذه سيكون لها أثر اجتماعي واسع، علماً بأن أكثر من نصف الصادرات اللبنانية تذهب إلى دول الخليج.
وهذا الأمر يدفع نحو أسئلة من نوع آخر: «لماذا يرتبط لبنان إلى هذه الدرجة بالخليج؟». يقول بعض الخبراء إن انكشاف لبنان على دول مجلس التعاون الخليجي سببه يعود إلى الحكومات المتعاقبة التي حوّلت لبنان إلى اقتصاد ريعي غير منتج يعتمد على التدفقات الخارجية التي تستثمر في السياحة والعقارات. فلم يجر تحفيز صناعته ولم يجرِ العمل على تنويع أسواقه الخارجية. وجاء هذا الأمر فيما كانت السعودية تشهد نقاط تحوّل في طبيعة السلطة وانخراطها في الحروب الأهلية الدائرة في سوريا واليمن، وفي ظل التحرّر الأميركي من نفط الشرق الأوسط.