تمثّل دمشق وريفها ساحة مفتوحة على المفاجآت خلال المرحلة المقبلة. وداخل التفكير الاستراتيجي لكلا الطرفين (المعارضة والنظام)، يوجد هدف معركة دمشق بوصفها أم المعارك التي من شأن نجاح أيّ منهما فيها أن يحقق فارقاً نوعياً استراتيجياً لمصلحته داخل الأزمة السورية التي دخلت معادلة الستاتيكو الخطرة على الطرفين، لما تحمله من احتمالات ارتفاع منسوب الاستنزاف الذي يقود إلى الترهل.
وحتى داخل كواليس دول «أصدقاء الشعب السوري»، ارتفعت أخيراً وتيرة الحديث عن معركة دمشق، بوصفها المكان الوحيد الذي لو نجحت المعارضة في تحقيق إنجاز فيها، لأمكن استثمار ذلك في تليين موقف كلّ من الرئيس بشار الأسد وحليفه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وينقل عن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند قوله لوزير الخارجية الأميركي جون كيري، خلال لقائهما في قصر الإليزيه، قوله إنّ الحل الدبلوماسي يجب أن يوازيه دعم مناسب للمعارضة يمكّنها من تحقيق إنجاز ميداني له قيمة، بمعنى أن يشعر الأسد بأنّ عليه أن يأتي إلى حوار وطني غير مشروط ببقائه. وأيضاً، داخل خلية الأزمة السورية في الإدارة الأميركية ووزارة الخارجية، يوجد الآن ثلاثة آراء بشأن ما إذا كان يجب الأخذ بنصيحة هولاند بإحراز تقدم ميداني للمعارضة في منطقة مهمة كدمشق: الرأي الأول يقوده روبرت فورد، آخر سفير أميركي في دمشق والمصنف على أنه شخصية مخضرمة في الشأن السوري. وفورد متحمس لأن تسيطر المعارضة على ساحة العباسيين في دمشق، وإن أمكن على ساحة الأمويين. وكان فورد، بحسب معلومات دبلوماسية مؤكدة، هو الذي تعمّد تفشيل مبادرة أحمد معاذ الخطيب الأخيرة للحوار مع النظام، عندما أبلغه ثلاثة شروط لموافقة واشنطن عليها، أبرزها أن يسبقها إنجاز عسكري ميداني على الأرض. يقول فورد إنّ المعارضة من مكان سيطرتها على حيّ جوبر تكون بعيدة عدة مئات من الأمتار عن العباسيين، وهذا معطى يسمح بالقول إن معركة دمشق بدأت.
الرأي الثاني يقول به وزير الخارجية جون كيري، المتحمس _ حسب التوصيف الفرنسي _ لأن يندمج أكثر في عملية ابتداع أفكار سياسية وعملية خلاقة لكسر الستاتيكو الحالي. وأبلغ من ذلك، فإنّ الفرنسيين يستنتجون نتيجة حديث هولاند _ كيري المعمق عن الأزمة السورية، أن الأخير يعمل لخلق «لوبي إقناع دولي» يتدخل لدى الرئيس الأميركي باراك أوباما من أجل دفعه إلى تغيير سياسة الجمود التي يمارسها تجاه الأزمة السورية. ويرى كيري أنه يمكن رفع منسوب تسليح المعارضة إلى درجة تستطيع من خلاله تحقيق إنجاز ميداني يفتح كوة في جدار تعنّت الأسد، مع الحرص على ألا تستفيد جماعات القاعدة في سوريا من هذا السلاح.
الرأي الثالث، وهو الأول من حيث تمثيله للقرار الأميركي، يقول به الرئيس أوباما الذي لا يزال عند لاءاته الثلاثة: لا لتسليح المعارضة، لا للتدخل العسكري الخارجي، لا للحسم العسكري. ولكن تحت سقف لاءات أوباما، ثمة محاولات من قبل أطراف مختلفة داخل محور دول أصدقاء الشعب السوري لإحداث اختراقات جوهرية في الميدان السوري، وذلك من أجل خلق أمل سياسي بإزاحة الأسد. وتعتبر صفقة السلاح التي اشترتها السعودية لمصلحة المعارضة السورية من كرواتيا جزءاً من هذه المحاولات. وتشاركت أنقرة مع الدوحة في تجسيد معادلة الصفقة الكرواتية فوق ساحة الميدان في سوريا. فالأسلحة الكرواتية مررت للمعارضة عن طريق الحدود التركية، إلى منطقة دير الزور، وسلم جزء كبير منها لنحو ١٥٠٠ مسلح نفذوا الهجوم المباغت على مدينة الرقة للسيطرة عليها.
ويجري التكهن اليوم داخل المطابخ السياسية المتابعة للوضع السوري، من جانبيه السياسي والأمني، عن الخطوة التالية بعد الرقة. وهناك بحسب هذه المصادر سيناريوان محتملان: الأول أن تستعيد قوات الجيش السوري المدينة، ولكن بأسلوب القضم، إذ إن النظام حريص على عدم إلحاق خسائر مادية بها، وخصوصاً أن الرقة تلعب دور الحاضن للبيئة السورية النازحة المسالمة. فخلال العامين الماضيين وصل إلى الرقة ٨٠٠ ألف نازح، من مناطق مختلفة. وهؤلاء قصدوها لأن إقامتهم فيها غير مشروطة بالانخراط في جهد المعارضة لإسقاط النظام، وذلك على غرار ما يحصل مع النازحين السوريين إلى مناطق في شمال سوريا أو ريف حمص، التي تسيطر عليها المعارضة. ويطلق على مدينة الرقة، التي صلّى بها الأسد في العيد الماضي، «فندق البلاد»، في إشارة إلى دورها الإيجابي في استيعاب نازحي الداخل.
الثاني، أن يكون الهدف من هجوم المعارضة على الرقة التوجه منها إلى دير الزور، وذلك وفق خطة لإنهاء وجود النظام في كل منطقة الشمال، وأيضاً خلق «خط تماس أفقي ومناطقي في سوريا»، يحل مكان واقع أن الميدان الحالي يتشكل من بؤر متداخلة عسكرياً وسياسياً. وتهدف المعارضة هذه _ بحسب المصادر عينها _ إلى إسقاط دير الزور بعد الرقة، وبذلك تصبح الأوضاع في سوريا متجهة نحو تقسيمها إلى ثلاث مناطق نفوذ: المنطقة الجنوبية والغربية تحت سيطرة النظام عسكرياً. والمنطقة الشمالية تسيطر عليها المعارضة عسكرياً. ومنطقة وسطى رمادية يسيطر عليها النظام عسكرياً وتهيمن عليها المعارضة سياسياً.
غزوة دمشق _ ٣
السيناريو الثالث المتوقع يفيد بأنّ الهدف التالي ما بعد الرقة ليس دير الزور، رغم أن المعارضة ستحشد باتجاهها بغرض جذب أكبر قوة من الجيش السوري إلى هذه المنطقة، ومن ثم مباغتته بالانقضاض على دمشق. وستكرر المعارضة في هذا السياق ما حصل في حلب، التي سارع المسلحون إلى التدفق إلى داخلها تحت غطاء انشغال النظام آنذاك في معركة دمشق. وبحسب هذه المصادر، فإن النظام ينظر بخطورة إلى احتمال وضع المعارضة يدها بشكل كلي على دير الزور المدينة وريفها، نظراً إلى صلتها بمنطقة الأنبار في العراق، ما يشكّل جيباً شاسع المساحة عابراً للحدود بين سوريا والعراق تفيد منه المعارضة في خلق مدماك لخوض حرب مواقع، وليس فقط حرب عصابات. وعلى هذا، فإنّه على الرغم من احتمال أن تكون معركة الرقة هدفها لفت النظر إلى الخطوة التالية باتجاه دير الزور، بينما المقصود هو دمشق، لا يمكن النظام إلا التحسّب لاحتمال بدء معركة دير الزور. وهذا يعني أنّ النظام عليه الاستعداد في هذه المرحلة لخوض حرب على جبهتي دمشق ودير الزور في وقت واحد.
ويتردّد على نطاق واسع داخل الكواليس المتابعة لوقائع الميدان السوري أنّ الجيش السوري يتجه لإجراء عسكري استباقي ووقائي يشتمل على شنّ هجومين عسكريين شاملين في الوقت نفسه: الأول باتجاه استعادة مدينة الرقة التي يحاصرها. والثاني بشنّ هجوم على ثلاثة محاور في دمشق، وذلك على النحو الآتي:
المحور الأول ينطلق الجيش السوري فيه من طريق المطار الذي بات يسيطر عليه حالياً، امتداداً حتى منطقة السيدة زينب، ومنها يفترض أن يكمل الجيش في إطار هذا الهجوم ليمد سيطرته على معاقل المعارضة في بيبيلا _ التضامن، بهدف تأمين هذه المنطقة بالكامل.
المحور الثاني ويقع أيضاً في جنوب دمشق، وينطلق من مواقعه التي سيطر عليها داخل داريا باتجاه إسقاط كل هذه البلدة، ومنها باتجاه بساتين كفرسوسة وصولاً إلى منطقة القدم.
وبتحقيق أهداف هجوم الجيش على هذين المحورين يكون قد أمّن كامل منطقة جنوب دمشق، وأصبح أكثر جاهزية لخوض المعركة على المحور الثالث الأصعب والأخطر، أي محور الغوطة الشرقية المتكوّنة من بساتين مفتوحة بعضها على بعض، ما يسهل عمليات تنقل المسلحين بين مناطقها. ويفترض أن يستهدف هجوم الجيش على هذا المحور السيطرة على خط بلدات طويل تسيطر عليه الآن بالكامل المجموعات المسلحة، وعلى رأسها جبهة النصرة، ويتألف من: دوما _ حرستا _ عربين _ كفربطيا _ المليحة _ وفي آخره تقع جوبر.
لغاية الآن يتعامل الجيش السوري مع معاقل المعارضة المسلحة في هذا المحور الثالث بالنار، المدفعية والصاروخية، وفق نظرية «الإحاطة بالنار». ولكن المتوقع في حال قرر الجيش خوض حرب استباقية، فإنّ الهجوم سيبدأ من محور ساحة العباسيين باتجاه جوبر _ كفرنبطة (...)، وصولاً إلى دوما.
ولكن يظل محتملاً على نطاق موازٍ أن تبدأ المعارضة الهجوم الاستباقي، انطلاقاً من جوبر باتجاه ساحة العباسين التي تبعد عنها أقل من كيلومتر واحد، على أن يترافق ذلك مع هجوم عبر كفرسوسة باتجاه ساحة الأمويين.
أخطر ما في معركة دمشق المتوقعة يتمثل في أنّ خطط الطرفين فيها لمباشرتها مكشوفة مسبقاً. فسيطرة المعارضة على جوبر، المعتبرة على أنها الضاحية المتاخمة لدمشق، تعتبر تمهيداً لهجومها على دمشق. وأي هجوم للمعارضة انطلاقاً من جوبر، سيكمل على دوما وحرستا الواقعتين بالقرب منها. وبالمقابل فإن أي تحرك من قبل النظام للسيطرة على جوبر، سينطلق من ساحة العباسيين وسيكون هدفه الاستراتيجي ضمن عملياته على هذا المحور السيطرة على دوما التي تمثّل بالنسبة إلى المعارضة نقطة ارتكاز لوجستي وميداني في معركة دمشق وفي مجمل قطاع الغوطة الغربية. وسيبقى هدف السيطرة على دوما ناقصاً وقابلاً للنقض الميداني من قبل المعارضة إن لم يليه أو يتزامن مع السيطرة على داريا، التي تمثّل نقطة الارتكاز لمجهود المعارضة العسكري في قطاع الغوطة الشرقية.
عملياً، حقّق الجيش السوري الفصل بين الغوطتين الشرقية والغربية، حينما نجح في السيطرة على طريق المطار الذي كانت المعارضة هاجمته ضمن غزوة دمشق الثانية في أواخر الصيف الماضي عبر محورين، الأول انطلق من منطقة حران العواميد باتجاه المطار وجرمانا، والثاني من مخيم اليرموك والحجر الأسود والقدم باتجاه السيدة زينب والمطار.
ويتوقع أن تكرّر المعارضة الهجوم الآنف نفسه باتجاه المطار والسيدة زينب، بالتزامن مع هجومها على ساحة العباسيين انطلاقاً من جوبر. ولكن قد يحمل هجومها الجديد عنصر مفاجأة، وهو أن تجري تغطيته بقصف مدفعي كثيف على العاصمة. ويلاحظ هنا أنّه في خلال الفترة الأخيرة سقطت على أحياء العاصمة أكثر من قذيفة هاون. وعدّ هذا التطور بمثابة مناورة مصغرة وتصفير لمدافع الهاون لتحديد إحداثيات ستستهدف بوابل من القذائف خلال بدء غزوة دمشق _ ٣ المتوقعة والمطلوبة دولياً إلى حدّ كبير.