دمشق ـــ الأخبار انقسم الناس، مع بداية الأحداث، بين مؤيد للإصلاح، لكن تحت عباءة الرئيس، وبين من لا يقبل بغير إسقاط النظام بديلاً. الأكثرية، التي عانت ما عانته، خصوصاً في المقلب الاقتصادي، كانت تريد إصلاح البلاد بعدما التهمت سياسة الانفتاح النيوليبرالية الأخضر واليابس. هي الأغلبية الصامتة التي لا يكترث لها أحد. تريد تحسين أحوالها المعيشية، ولا تهتم بأمر من يحكم، رغم معاناتها، النسبية، مع النظام الأمني الذي ضاعف من قبضته على المجتمع، أو توهم ذلك حسبما أوضحت التطورات اللاحقة، بعدما فاقمت الأوضاع الاقتصادية من عذابات البشر، فلم تجد السلطة طريقاً لمعالجتها غير إطلاق يد الأمن.

من الصعب معرفة مزاج المواطن السوري العادي، أي الأغلبية الصامتة. لقد تعلم الصمت، وتفنّن في ممارساة التقية، لدرء الشر عن نفسه وعائلته. يحدثك بما يظن أنه يرضيك، ويحدث آخرين بما يرضيهم، فلا تعرف مكمن حقيقة موقعه. لكن إن وثق بك، يحدثك من القلب.
أحداث درعا التي قادت إلى انفجار التظاهرات، كانت القشة التي قصمت ظهر البعير. ليس المهم مواقف المثقفين ومن شبه لهم، بل مواقف البشر العاملين هناك ومعرفة أسباب استحالة خزان العروبة إلى ما أضحت عليه. يقول أحدهم: «نحن لم نتظاهر ضد الرئيس. نحن لا يهمنا هذا ولا نريد سلطة، وكل نظام سيأتي بعده، إن رحل، سيستقيم مدة أشهر ثم يبدأ بالسرقة». ويضيف: «يقولون إن أمورنا لم تصلح بعد الخليفة عمر بن عبد العزيز!! نعرف أن السياسة عمل غير نظيف. نحن نريد حقوقنا وكرامتنا التي داسها بعض رجالات النظام بالأقدام. لن ننسى، ولن نسامح الأوغاد الذين أهانوا كبارنا وكرامتنا».
استمر الشعور بتفاؤل الطرفين، المعارضة والموالاة، كل ينتظر الانتصار على الآخر، وبدأت بقعة الدم تتسع وتطفو على سطح الأحداث. الطرفان تمترسا خلف آرائهم وتحليلاتهم التي ثبت أنها أوهام وتمنيات ليس أكثر. المعارضون كانوا يبثّون التفاؤل ويضعون تاريخاً محدداً لسقوط النظام، ما أن يمر حتى يسمّون موعداً آخر، ثم آخر، وهكذا مثل البروتستانت الألفيين الذين كانوا يضعون تواريخ مختلفة لنهاية العالم ثم يعدّلونها عندما تمر بلا حدث يذكر. مرت كثير من الساعات الصفر لسقوط النظام، لكنه بقي، بل سطوته ازدادت، تماماً مثل المعارضين الذين، يقول كثيرون، لجأوا إلى السلاح من البداية.
بعد مرور عام على اندلاع الأزمة، كانت الحياة في العاصمة لا تزال تسير سيراً شبه طبيعي. التنقل عادي والسهر في مطاعم الطبقة الوسطى في قلب دمشق التاريخية، في داخل السور، بين باب شرقي وباب توما وفي أحياء طبقة الأغنياء، الجدد منهم والقدامى، شبه عادي. فقط يوم الخميس كان الناس يبتعدون عن السهر خوفاً من أيام الجمع التي تعلنها القنوات المعادية للنظام. تقنين التيار كان في حدّه الأدنى، في العاصمة، لذا بقي المزاج العام متفائلاً بأن المشكلة ستحل، مع أن المعارضين المتمترسين كانوا يشددون على أن لا بديل من إسقاط النظام. جاءت وفود، ومبادرات ومراقبون عرب وأجانب، وكانت الآمال بانتهاء المعاناة المتزايدة، تنتعش، ثم تخبو. هذا في دمشق. أما في الريف فالمشهد كان مختلفاً، حيث تقنين التيار كان طويلاً، والعذابات والمعاناة تزداد.
مع إطلالة العام الثاني بدأت الأزمة تأخذ شكلاً مختلفاً حيث استحالت تمرداً عسكرياً واسع النطاق. إنذارات الإخوان المسلمين بأنهم لم يدخلوا المعركة بعد، والأمور ستتغير بعد ذلك إن لم يقبل النظام بتسليم السلطة. إعلام النظام، الذي يفتقر إلى الحد الأدنى من الذكاء عبر حالة إنكار لا مثيل لها، كان يسهم في استثارة البشر ضده، خصوصاً بتجاهل معاناة الناس والأسباب الحقيقية لتوسع نطاق السخط. سقوط عشرات القتلى يومياً، والكلام كان يدور أحياناً عن مئات القتلى، لكن من دون ذكر أسمائهم، كان يؤثر سلباً في الناس ويزيد من عدائهم للنظام. تتكلم معهم عن أسباب استمرارهم في مواجهة نظام يمتلك قوة عسكرية هائلة أثبت الزمن أنه لن تنشق، رغم الحديث في الشهر الأول عن انشقاق كتائب وألوية، خصوصاً في درعا وحماة وجسر الشغور. الإجابة تكون: «لم نذهب إلى قواعدهم لمحاربة النظام، هو من يقتحم أحياءنا الفقيرة ويعتقل أبناءنا ويقتل من يقتل. لا نريد شيئاً سوى جثامين شهدائنا ومعرفة مصائر معتقلينا. ما يجري جنون. لا نريد سلطة ولا نريد الحكم». ذاك كان كلام الناس العاديين، كلام الأغلبية الصامتة.
الأوضاع تزداد تدهوراً، ولا يبدو أن أحداً مهتماً بوقف الكارثة التي تهبّ على مختلف أنحاء الوطن. بدأت أقسام من الشعب تشعر باليأس، فازداد تعلقها بتمنّي تدخل خارجي، خصوصاً بعدما أدركوا أن المعركة خاسرة ومدمرة، وأن إسقاط النظام ليس بالسهولة التي كانوا يظنونها. لم يدركوا أن سقوط زين العابدين بن علي وحسني مبارك كان بسبب عدم وقوف الجيش مع أي منهما، فرحلا، أما في اليمن فالأمور اختلفت تماماً. القنوات المعادية للنظام كانت تصور لهم أن انتصارهم خلف الباب. كثيرٌ من الناس كانوا يعوّلون أيضاً على تدخل تركي وعربي وأميركي وغربي، خصوصاً بعدما جرى في ليبيا ما جرى، وفق أخبار القنوات المعادية للنظام وما كانت تعدهم به.
مرّ الوقت من دون تغيير، فتبيّن لهم استحالة الانتصار على النظام واستحالة التدخل، فتحول مديح تركيا والغرب إلى نقمة وكراهية. صار المرء يسمع: «لقد كذبوا علينا وهم يريدون مصلحتهم فقط. يريدوننا أن ندمر بلادنا». مقولة ومشاعر عززها تدهور الوضع الاقتصادي وفقدان الأمن، حيث صارا هاجس البشر الأكبر.
مع فقدان الأمل بالانتصار على النظام أو بإحداث تغيير جوهري في كيفية تعاطيه مع رعاياه، تغيّر المزاج في العام الثاني للأزمة، ليس لصالح النظام بل لتمني انتهائها. «لا نريد حرية ولا ديموقراطية، ولا نريد شيئاً سوى العودة إلى الهدوء». الارتفاع الجنوني في الأسعار وتدهور الأوضاع المعيشية جعلا تطلعات الناس، الأغلبية الصامتة، متواضعة للغاية: «فليبق في الحكم، لكننا لن نحبه ولن يجبرنا أحد على أن نحبه».
مع الازدياد المطّرد في انعدام الأمن والتدهور المستمر في الأوضاع المعيشية، صار همّ الناس الرئيسي الهدوء. في بداية الأزمة الوطنية الكبرى التي عصفت بسوريا، كانت معظم أجهزة التلفاز في المتاجر مفتوحة على «الجزيرة» و«العربية» والـ«بي بي سي عربي» و«فرانس 24» العربية، وقليل منها على غيرها. نادراً ما كان المرء يرى جهاز تلفاز في محل عام مفتوح على القنوات المحلية. تسأل عن السبب أو الأسباب، فتأتيك الإجابة: «ترى بعينيك أمراً ما فتسمعه مقلوباً في القناة المحلية. هم كذابون. نحن ننوّع مصادر معلوماتنا، لا نصدّق كل ما تقوله الجزيرة أو العربية، لكنهما تقولان بعض الحقائق. نحن منفتحون على مختلف الآراء! تريدنا أن نشاهد الفضائية المحلية! عندها لن نعرف شيئاً عمّا يدور في بلادنا ويصيبنا الغثيان والقرف».
لكن ما ساهم أيضاً في انفضاض كثيرين عن المعارضة المسلحة المسماة مجازاً الجيش الحر، دخولها مناطق، ثم انسحابها (تكتيكياً) منها، ما استفزّ سكانها الذين رأو أنه ما دام ليس بمقدور المسلحين الاحتفاظ بمناطق احتلوها فليس ثمة مبرر لدخولها أصلاً، لأن مصيرها سيكون الدمار. «أم هي معركة إعادة الإعمار»، يقول البعض. هذا أثار نقمة سكان كثر وجعلهم يحاولون منع المسلحين، كائناً من كانوا، من دخول بلداتهم.
الأمور تغيّرت الآن. لا ترى من يفتح جهازه على أي من القنوات الإخبارية. فإما تراه مغلقاً، أو يفتح على قنوات الرياضة أو المسلسلات أو القنوات الغنائية، عدا يوم الجمعة حيث يحرص البعض على فتح جهازه على قناة قرآنية. الناس ملّوا بعدما ثبت لهم عدم صحة كل ما يسمعون. تسأل: «ما آخر الأخبار؟»، فيأتيك الرد قبل إنهاء الجملة: «لا نسمع الأخبار. نسمع صوت انطلاق قذائف المدافع والدبابات، وكل ما نريده توقّف هذا. لقد دمرت سوريا. كفانا، لا نريد حرية ولا انتخابات ولا شيء. نريد انتهاء الحرب». تتحدث معهم عن البدايات، فيقاطعونك: «لا يهمنا، أخطأنا. العالم خاننا. كفى، نريد الأمن والاستقرار. يكفينا ما حصل».
مزاج كثير من الناس تغيّر بعدما تمادت جماعات مسلحة في الجهر بجرائمها التي وثّقت بعضها على الإنترنت، وبعضها الآخر نقلته وكالات أنباء عالمية. كان ثمة شباب تركوا أعمالهم في خارج سوريا وأتوا للمشاركة في القتال ضد النظام، لكنهم، كما يقولون، اكتشفوا أن الثوار قلة وأن العصابات هم الأغلبية، فانسحبوا بهدوء ورووا لأحبائهم ما رأوه وما عايشوه وقصصاً انتشرت في المجتمع بسرعة. هذا أسهم في إحداث تغيير في مزاج كثيرين الذين ما عادوا يرون في (الثوار) بديلاً عادلاً للنظام. تسمعهم يقولون: «لعنة الله على الاثنين. كفى!».
هناك طبعاً عنتريات على ضفتي المشهد. الحد الأدنى الذي يطالب به ممثّلو كل منهما سحق الطرف الآخر، والمرء لا يدري ما الحد الأقصى الذي يريدونه. لكن الجو العام بين أغلبية الشعب يطالب بإنهاء القتال.



الموالون أنواع

الموالون أنواع. معظمهم من طوائف محددة. مستفيدون من النظام. هناك آخرون عِلمانيون عروبيون، أنهكهم فساد النظام، الذي يرون أن البديل عنه قيام نظام مذهبي يدمر المجتمع ويقسمه. هم من كافة المذاهب. الانقسام في سوريا طبقي، لكن المعارضة أخذت مظهراً وجوهراً مذهبياً. ولأنه سوري ضد التمرد المذهبي، أصبح موالياً صاماً أو سلبياً. وهناك قرى ومناطق ريفية بأكملها موالية للنظام بسبب وجود أبنائها في الجيش، وهناك قرى موالية للنظام لأنه حررها من الإقطاع قديماً ومنح أهلها بعض الأراضي.
أغلبية المسيحيين يجهرون بدعمهم للرئيس، لكنهم في الوقت نفسه يحملون النظام مسؤولية الأوضاع في البلاد. فساد السلطة وجشع الأغنياء هما ما أوصل الأمور إلى ما وصلت إليه. «ليس ثمة من بديل، لذا فإننا نقف حتى الموت مع الرئيس، وليس مع النظام. يكفي ما حصل للمسيحيين في لبنان والعراق وفلسطين».
هذه حرب طبقية. حرب الفقراء على الأغنياء. لذا نرى كل هذه العصابات والسرقات والخطف والذبح. إنه نتاج الحقد الذي نما في قلوب الفقراء وها هم يأخذون بثأرهم، لكنهم وقعوا فريسة المذهبية. «انظر كيف دمروا الجامع الأموي في حلب. منذ أكثر من ألف ومئتي عام يذكر فيه اسم الله، والآن، بفضل هذه العصابات المذهبية، توقف ذلك وتوقف الأذان. الله لا يعطيهم عافية». هناك الموالي الذي ينتمي إلى الطبقة الوسطى. يريد عيش حياته من دون تدخل خارجي، ولا يرى سوى الجماعات المذهبية بديلاً للنظام، لذلك يتمسك بالسلطة، لكنه لا يخفي سخطه على فساد رجالاتها، وأنهم السبب في اندلاع الأزمة. وهناك الموالي المجاهر بهويته الطائفية، ويعلن جهاراً خشيتة من الإبادة على يد المعارضة المذهبية المتطرفة. هم مع الرئيس لأنه ملجأهم الوحيد من مذابح تاريخية إلى أخرى موعودة في المستقبل.




المعارضون اربعة نماذج

المعارض السياسي

من الصعب الحديث عن معارضين سياسيين بصيغة الجمع. فالساسة لا يجمعهم سوى أمر واحد هو شهوة السلطة. تسألهم عن رؤياهم فتأتيك الإجابة: «حرية وديمقراطية...». كلمات عامة، لا رؤية سياسية ولا برامج. تسألهم أكثر، فيعودون إلى التاريخ وتحملهم النظام وظلمه، فتظن أنك تستمع إلى أغنية فيروز الخاصة بـ «صالح يللي ما بيصالح».
تسألهم عن المستقبل، فيعودون إلى الماضي. قلة قليلة تحررت من معاناتها الشخصية وكانت تشدد على أن الحفاظ على سوريا العِلمانية لن يتم إلا بزواج النظام بالشعب، أي بحكم تعددي، وأن لا تنازل للجماعات الطائفية والمذهبية. ومع ذلك هي أقلية مقموعة ولا يُسمح بها لا في وسائل إعلام السلطة ولا الإعلام المعادي.

المعارض المثقف

هو أكثر مخلوقات البلاد تشوهاً. يتوهم أنه يفهم في كل الأمور: في السياسة والتكتيك والاستراتيجية العسكرية والقانون الدولي والعلاقات الدولية وفي الحرب البرية والجوية والبحرية والصاروخية، والسلام واستراتيجيا حرب العصابات وفي الفن والأدب والبيئة والاقتصاد وكافة العلوم الأخرى. ليس ثمة مادة ليس متبحراً فيها.
بل إنه يعرف أيضاً أن الفلسطينيين باعوا بلادهم. هو واثق من ذلك لأنه رأى صك البيع بعينيه.
في الوقت ذاته يؤمن المعارض المثقف، إيماناً قاطعاً بتقسيم العمل ـــ القتال والموت للفقراء، والتنظير له. يجلس في المقاهي يحتسي القهوة، والأفضل العرق أو الويسكي. ينظر ويراقب ويرى فقط ما يظن أنه يراه. متعالٍ إلى درجة تثير الاشمئزاز. تحاول الحديث معه، فالويل لك إن اختلفت معه على نقطة واحدة. تصبح عندها خائناً لمبادئ الثورة وعميلاً للنظام ووجب عزلك ومقاطعتك، والحديث معك هو الخيانة العظمى.
عندما تحدثه عن تعاظم المآسي يخرج من محفظته الفكرية الأقوال النمطية مثل آلام المخاض، ولا حرب من دون ضحايا . . إلخ، وبعد فترة تسمع أنه غادر البلاد، لينمي مقدراته على مقاومة النظام، بعيداً، في عاصمة من عواصم الغاز أو النفط، التي تعوم فوق بحيرات الحرية والديمقراطية.
لكن بعض من بقي يهمس، في أذنيك، إن وثق بك، بعيداً عن حلفاءه: كفى. خربت البلاد.
قلة قليلة فعلاً تحاور وتسأل عن الرأي الآخر. أغلبية مثقفين كهؤلاء أكثر دكتاتورية من النظام. تشعر بأنك إزاء أشخاص لا علاقة لهم بالشعارات التي يرفعونها. يريدون حرية لهم فقط. يزداد شعورك بالإحباط.

المعارض المذهبي

ثمة معارض من نمط آخر، هو المذهبي المتطرف. يكره كل الناس الذين لا يشاركونه رأيه. يفتي شرعيًا في كل أمور الحياة الدنيا، والآخرة، مع أنه لا يعرف كتابة اسمه. لا يتكلم، إلا من خلف قناع، أو من وراء الحدود. يستشهد بفتوى شيخ الحارة ولا يحفظ أي سورة من القرآن. بعض المعارضين من كبار السن، وكثر من الشبيبة تركوا لغرائزهم العنان. كبار السن يتذكرون الفرص الضائعة في الماضي، أما الشبيبة، حتى المتعلمة، فتنطلق من معاناتها الشخصية مع الأمن والظلم وتسلط الأقوى والموالي للنظام، مهما كان موقعه، في الجامعة، في المدرسة، في أماكن العمل. لا يريد سوى الثأر، من طائفة محددة يصر على أنها هي سبب معاناته.

المعارض الصادق

هو الإنسان الفقير. لا يحدثك عن العلويّ والسني والمتدين والمؤمن والكافر. كل هذه أمور لا تهمه. كثير منهم مؤمن، يمارس الشعائر، لكنه يعد الأمر شخصياً وفقط لتأكيد انتمائه الديني. عندما تسأله عن أسباب معارضته يجيبك: «الأسعار ارتفعت؛ لا عمل لدينا؛ لا مستقبل لنا. الواحد منا غير قادر على الزواج؛ غير قادر على فتح بيت أو حتى استئجار شقة. مضطرون إلى العيش في بيوتنا العشوائية كعلب السردين. وفوق هذا كله، يلاحقوننا في أرزاقنا. إنهم يريدون مشاركتنا في دخلنا، حتى المتسول يطالبونه بأن يشركهم في دخله. الفساد ضرب المجتمع بأكمله، حتى نخاع العظم». وعندما تحدث شخص ما عن إنسان جيد في الدولة تأتيك الإجابة: «وكيف جرى تعيينه؟ مستحيل تعيين شخص غير فاسد». الرشى كانت الطريقة الوحيدة لنيل المرء حقه أو لمصادرة حقوق الغير.
هذه المعارضة لا تتكلم معك في حرية التعبير ولا في تشكيل الأحزاب ولا في تعديل الدستور، ولا تعرف الجمل المنمقة ولا الشعارات البراقة. هي معارضة المعاناة اليومية. يحدثونك عن مشاكلهم، عن مصادرة أراضيهم، عن منع المياه عنهم لمصلحة هذا أو ذاك من المتنفذين، عن قوانين زراعية جائرة أجبرتهم على بيع أراضيهم للأغنياء بأرخص الأسعار لسداد ديونهم الناتجة من تلك القوانين، عن عمال القطاعين العام والخاص، الذين يجد أرباب العمل ألف طريقة وطريقة لسلبهم حقوقهم وإذلالهم.