يتمثل تيار المستقبل في عكار بسبعة نواب. خمسة منهم يلتزمون «الانضباط الحزبي»، هم: خضر حبيب الذي يقضي قبل الظهر مهرولاً بين أروقة مكاتب النواب في المجلس وبعده في قاعات الفنادق الرياضية في بيروت. رياض رحال الذي يكتشف منذ عامين «حياة بيروت»، بعد يأسه من بناء حيثية في بلدته أو حتى ضمن عائلته. هادي حبيش الذي ظهّرت الانتخابات البلدية أخيراً رأي بلدته به. خالد زهرمان نائب عكار الذي يسكن في... إقليم الخروب. وأخيراً نضال طعمة الذي يبقى في عكار بحكم عدم مغادرته المدرسة حيث يعمل. وما إقامة هؤلاء، بعيداً عن عكار وحرمانها و«نق» أهاليها، إلا إشارة إلى بعدهم العمليّ عن ناخبيهم الذين سيفكرون ألف مرة قبل صرف خمسين ألف ليرة للوصول إلى ممثليهم، سواء في مكاتب المجلس أو منازلهم، لطلب خدمة.
النشاط الخدماتيّ للنواب ــ من بعيد ــ كان يقتصر، حتى أشهر قليلة ماضية، على حبيش الذي عاد ليركز جهده الخدماتي على بلدة القبيات فقط. هؤلاء النواب لا يتمتعون بأية حيثية عائلية أو مناطقية أو طائفية توازي، أقلّه، حيثية النائبة جيلبرت زوين الكسروانية. وحين اختارهم المستقبل كان يعتقد أنهم سيستفيدون من سيطرته على الإدارة الرسمية للحفاظ عبر الخدمات على شعبيته العكارية. والأكيد في السياق نفسه، أن نواب عكار لم يقدموا لها مشروعاً إنمائياً واحداً، ولو عبر المؤسسات الدولية والمصارف العربية كما يفعل رئيس كتلتهم فؤاد السنيورة والنائبة بهية الحريري في صيدا. أما الإثنان المتبقيان، فهما: النائب معين المرعبي الذي ينأى بنفسه عن الانماء وعن تيار المستقبل وهموم النيابة، مكتفياً بمشاركة الإسلاميين اعتصاماتهم ومؤتمراتهم الصحافية. والنائب خالد ضاهر الذي يبني في بيئة المستقبل مستفيداً من عباءة حزبه السلفي الخاص، متفوقاً على التيار بالتنظيم والإدارة والخدمات وحماسة العناصر وتعبئة مناصريه الدائمة. وقد بات له، بحسب تقارير استخبارات الجيش، مجموعات في غالبية بلدات المستقبل يتراوح عديد عناصرها بين خمسة شباب وخمسين، إضافة إلى مجموعات صغيرة في البلدات المسيحية تتألف من مقاتلين سابقين في القوات اللبنانية ربطتهم الحاجة المالية بضاهر. ومن بلدة ببنين إلى الكواشرة وكوشا ومشحا وسيسوق، يقول تقرير أمني ان رجال ضاهر ليسوا إلا أبرز المتحمسين في تيار المستقبل قبل عامين، إضافة إلى مجموعة كبيرة من عناصر «الجيش السوري الحر» وغالبية المهربين بين لبنان سوريا ومجموعة سلفيين كانت تلتزم منذ معركة الجيش و«فتح الإسلام» منازلها. وفي بلدتي رجم بيت خلف ورجم بيت عيسى في وادي خالد، مثلاً، يمكن رؤية تسعة شباب محسوبين على ضاهر يتنقلون بسيارتي دفع رباعي بين منازل البلدة في حركة يقول أهالي القريتين إنها لا تتوقف ليلاً ونهاراً. السيارتان مستوصف وادي خالد حين تحتاج إلى دواء، وفرنه حين يجوع، ومصرفه حين ينقصه المال. فيما المسؤول المستقبليّ يتنقل على دراجة نارية صغيرة توفيراً للبنزين، وفي وقت تحولت هيئات المستقبل إلى جمعيات مجتمع مدني تلعب دور الوسيط بين مؤسسات الإغاثة الدولية والمهجرين السوريين. ورغم اختيار ضاهر كلماته بدقة عند الحديث عن الرئيس سعد الحريري، فإنه ينتقد من دون وازع نواب المستقبل و«انشغالاتهم السخيفة»، ويقاطع نشاطات المستقبل العكارية ويحث شبابه على النأي بأنفسهم عنها. في ظل تأكيد من يعرفون ضاهر والمستقبل أن ما يجمعهما يبقى أكبر بكثير مما يفرقهما. لن يفترقا، لكن المستقبل لم يعد وحده: ينمو في جسده جسد آخر يأكل منه. والأكيد أن المستقبل الذي يدعي رئيسه الاعتدال يخشى مواجهة ضاهر غير المعروفة نتائجها.
غياب المستقبل النيابي يسبقه، ويتبعه، غياب حزبي، كما يسبق خلاف النواب المستقبليين بين بعضهم البعض ويتبعه خلاف بين المنسقين. فقبل عامين قسم تيار المستقبل عكار إلى ثلاث مناطق (القيطع، الشفت والجومة، الدريب والسهل ووادي خالد) على أمل الإحاطة أكثر بنفوذه ومأسسة شعبيته. إلا أن ذلك لم يتحقق. قائد القيطع، وهو خزان المستقبل الأول في لبنان، مكتنز الجسم، أصلع، حريريّ «السكسوكة»، يدير في دوام عمله فرع بنك البحر المتوسط في عكار وتيار المستقبل في أوقات فراغه. تركز نشاط سامر حدارة الرئيسي في العامين الماضيين على تلبية دعوات رؤساء البلديات وخصومهم على موائد الغداء والعشاء، حتى ازداد وزنه نحو عشرة كيلوغرامات. لم يصالح من اعتكفوا في منازلهم إثر تعيينه منسقاً ولا من حردوا إثر انحياز المستقبل رسمياً ضد عائلاتهم في انتخابات 2010 البلدية أو من ساءهم اختيار غيرهم للنيابة قبل ذلك بعام. وباستثناء احتفاله بعيد المولد النبوي في منزله، لا يسجل للمستقبل نشاط في عهده. ففي بلدة بزال، مثلاً، يؤكد بعض الجامعيين أن المستقبل دمر مستقبلهم حين استقالوا من المؤسسات الهندسية التي يعملون بها للالتحاق عشية الانتخابات النيابية بمؤسسات تابعة للتيار في السعودية وغيرها، لم تلبث أن طردتهم بعد الانتخابات بشهرين. مشروع المستقبل الرئيسيّ في بزال جرار زراعي وصهريج لرش المبيدات الزراعية.
وفي عاصمة القيطع، ببنين، يتفرج حدارة على تنازع الجماعة الإسلامية ممثلة برئيس بلدية ببنين قبلان كسّار والنائب ضاهر. اختلاف الرجلين بات طبيعيّاً أياً كان الاستحقاق، ففي وقت كان النائب العكاري يعد العدة لطرد الجيش من المنطقة، كان رئيس بلديته ينثر الورد والأرز عند مفرق بلدته على عناصر الجيش. وفي وقت كان ضاهر يحمل بشدة على مفتي عكار الجديد الشيخ زيد زكريا، كسر رئيس بلديته قرار مقاطعة المفتي وزاره مهنئاً. أما منسق الدائرة الثانية عصام عبد القادر فيمثل الخصم الأول للنائب المرعبي. لم يستفد عبد القادر من قربه من النائب حبيش ليحسن أوضاع المستقبل الخدماتية في تلك الدائرة. وفي ظل الجفاف الخدماتي والمالي المستقبلي العام، يتسلى عبد القادر بتفريخ مرشحين أرثوذكس في مكتبه، مقنعاً كل أرثوذكسي يزوره بأنه أهل للنيابة وعليه «فتح الكيس». الأمر الذي يضيف إلى حقد المرعبي عليه، حقد نائبي عكار الأرثوذكسيين رياض رحال ونضال طعمة.
نفوذ المستقبل في بلدات الشَفَت والجومة الأرثوذكسية تراجع إلى مستوى أدنى مما كان عليه قبل اغتيال الرئيس الحريري. ففي الدريب، يحافظ منسقها خالد طه على نفوذ المستقبل في بلدة خريبة الجندي التي يرأس بلديتها، أما سائر البلدات فتمثل بلدة الشيخ أحمد عبد الواحد (البيرة) أفضل نماذجها: كانت المجموعات السلفية ملحقة هنا بتيار المستقبل فبات المستقبل في الانتخابات البلدية الأخيرة ملحقاً بمجموعة النائب ضاهر السلفية. ورغم تحالف السلفيين والمستقبل وخطباء المساجد الثوريين، خرجت لائحتهم مجتمعين في الانتخابات البلدية الأخيرة مُختَرَقة بستة مقاعد من أصل 15. مع العلم أن المنسقين الثلاثة، طه وعبد القادر وحدارة، لا يكنون وداً كبيراً لبعضهم بعضاً. أحد الناشطين العكاريين في المستقبل يؤكد أن الثلاثة يشتهون النيابة، وينافسون النواب اولاً وبعضهم بعضاً ثانياً.
بالانتقال إلى الإدارات الرسمية، خسر المستقبل عام 2010 معاركه في جميع بلدات عكار الكبرى من دون استثناء. وبعيداً من اتحاد بلديات وادي خالد المقرب رئيسه من تيار المستقبل، تغرد اتحادات البلديات الخمسة الأخرى بعيداً عن المستقبل: اتحاد الجومة يرأسه سجيع عطية مدير مؤسسة عصام فارس. اتحاد الشفت يرأسه أنطون عبود المحسوب على التيار الوطني الحر والحزب السوري القومي الاجتماعي. اتحاد وسط وساحل القيطع يرأسه رئيس بلدية مار توما أحمد المير المقرب من الرئيس نجيب ميقاتي. اتحاد بلديات جرد القيطع يرأسه رئيس بلدية فنيدق عبد الإله زكريا الذي فاز بالبلدية بالتحالف مع النائب السابق وجيه البعريني. ويستعد زكريا لتسليم مقاليد المجلس البلديّ لعضو البلدية الناشط رسمياً وعلانية في ماكينة البعريني خلدون طالب. أما اتحاد السهل فيقيم رئيسه خالد فياض في المغرب، وتغنيه زعامته المالية عن التزلم للمستقبل أو غيره. أما في المؤسسات الدينية، فحل في دار الإفتاء مفت بعيد عنهم محل المفتي أسامة الرفاعي المقرب منهم. وفي دائرة الأوقاف الإسلامية لا يزال الشيخ مالك جديدة في محله، بينما حل الشيخ عبد القادر الزعبي المشحاويّ البعيد جداً عن المستقبل محل الشيخ محمد المراد الذي كان يؤيد المستقبل بقوة. والأكيد أن المؤسسات التي لم تلعب دوراً انتخابياً في السابق يمكن أن تلعب بوجهيها الجديدين دوراً كبيراً اليوم، في ظل تحول المساجد إلى مراكز لقيادة الرأي العام السياسي والتأثير الانتخابيّ فيه. وفي قائمقامية عكار، تحسب القائمقام رولا البايع على مؤسسة فارس، فيما أسرتها عونية. ومدير مصلحة الكهرباء غسان الخوري، كما مدير مصلحة المياه، ضدهم. ومسؤول المالية الذي عين حديثاً كارلوس عريضة ضدهم. أما المستشفى الحكوميّ الذي يديره المستقبلي حسين المصري فتحول منذ عام إلى مستوصف لـ «الجيش الحر». ويقبض المستقبل أيضاً على دائرة النفوس التي حوّل سوء خدماتها وبطئها نعمة المستقبل إلى نقمة عليه. أما قوة المستقبل الرئيسية ونفوذه فيتركزان في كل من قوى الأمن الداخلي ممثلة بآمر سرية حلبا ماجد الأيوبي ومسؤول فرع المعلومات عبد الناصر غمراوي، اللذين يقبضان على البلديات في ما يخص رخص البناء وشتى الأعمال، وعلى الملفات الأمنية والعلاقات السياسية السرية وكل ما يتحرك في عكار، ووزارة التربية التي لا يزال وزيرها حسان دياب يحقق لحبيش كل ما يطلبه من مناقلات. أما آخر مساعدة تربوية قدمها المستقبل فيعود تاريخها، بحسب مصدر في المكتب المركزيّ في عكار، إلى 11 نيسان 2011. وقد أقفل التيار مكاتبه الخدماتية الخمسة في المنطقة ليكتفي بمكتب واحد توقف قبل عامين عن تقديم الخدمات الصحية والاجتماعية أيضاً.



سماء عكار رمادية

عاد العكاريون من المستقبل إلى طموحاتهم الشخصية وانقسامات عائلاتهم ومذاهبهم. شاب التيار حتى بدت عليه السنوات الثماني كأنها ثمانين. ما عادت السماء زرقاء إنما رمادية ملبدة بالغيوم. ما عاد المستقبل الحزب العابر لطوائف عكار، ولا الحزب الثريّ الذي يوزع مسؤولوه الشيكات. ما عادت «زي ما هيي، كرمال عيون بهية» أغنية الأعراس، ولا صورة «الرئيس الشهيد» زينة الصالونات. حلت رايات جهادية محل أعلامه في ساحة حلبا. تحوّل مستوصفه قرب حلبا نقطة أمنية لـ «الجيش الحر». المستقبل 2013، حزب بلا قضية، مسؤولوه يمقتون بعضهم بعضاً، وبلا عدة شغله الخدماتية والمالية. حزب لا تتابع بيئته الحاضنة وسائل إعلامه ولا تثق بنوابه ولا تصدق أبواقه. حزب فقير، مكاتبه خاوية، نوابه لا يزورون مناطقهم، هيئاته تنقسم على نفسها، يعلك مسؤولوه الخطابات نفسها. لا يعلم ولا يعمر، إنما فقط يكبّر. لكن ورغم تغيره فإن الناخبين لم يتغيروا؛ ما يزالون معه، لأن خصومه أسوأ منه. فبكل سوئه ما يزال المستقبل أحسن سياسياً وخدماتياً من خصومه المشتتين انتخابياً، والمرتبطين بمرجعيات مذهبية خدماتياً تجلس في مكتبها بعيداً عن عكار، مرددة: تلك منطقة سنية، كلها ضدنا.