على مدى عقود، صوّرت الولايات المتحدة الأميركية كوبا على أنها واحدة من الدول الشاردة عن القطيع، وأنّ مصير نظامها إلى زوال. تغيّرت الخريطة السياسية في أميركا اللاتينية منذ عام 1998. أضيفت دولة شاردة أخرى: فنزويلا. «الدولة المارقة» لم تنزوِ في «حديقة أميركا الخلفية» لتتلقى الضربات والصدمات. تعاونت مع «الجزيرة المعزولة». قدمت خطاباً بديلاً، ونمط حكم بديلاً. مرّت سنوات لتمتلئ بعدها الحديقة بالأشواك.
واشنطن أضحت مجرّد متابعة لمسلسل درامي لاتيني عاش سنوات. بعد تشافيز، صعد العامل لولا دا سيلفا إلى رئاسة البرازيل، والهندي الأحمر إيفو موراليس إلى رئاسة بوليفيا، ورفائيل كوريا إلى رئاسة الإكوادور، ودانييل أورتيغا إلى رئاسة نيكاراغوا. اليسار الاجتماعي طاول أيضاً كلّاً من الأرجنتين والسلفادور وتشيلي والعديد من الدول الأخرى. دخلت هذه الدول حقبة جديدة. تبيّن أنها مسار أكثر من كونها «صدفة انتخابية». جاء هذا المسار ليظهر تحولات في الوعي الاجتماعي لهذا الدول.
حَكَم اليسار الجديد الرقعة الأكبر من القارة الفقيرة. الديناميكية السياسية تزعمتها كراكاس عبر جملة من المبادرات الإقليمية لتبلور حدّاً أدنى من الوحدة الاقتصادية والتناغم السياسي. وتأتي زعامة تشافيز من منطلق أنّه أول القادة اليساريين الجدد الصاعدين إلى الحكم والصوت الأعلى في النداء لبديل اقتصادي اجتماعي يواجه الغطرسة والسيطرة الأميركية. حذا حذوه الرفاق الجدد، وشكّلوا معاً جبهة راديكالية، من أهم ركائز سياساتها التكامل الإقليمي.
تبنّى تشافيز مع كاسترو وموراليس إطاراً لاتينياً، أطلقوا عليه اسم «البديل البوليفاري»، وهو مستوحى من المناضل الفنزويلي الراحل سيمون بوليفار (أول من نادى بوحدة القارة بعد تحريرها). ويهدف إلى نوع من الوحدة الاقتصادية أو التنسيق التكاملي بين بعض دول القارة المنضوية في منظمة «الألبا» كبديل لمنظمة التجارة الحرة للأميركيتين (نافتا 1994) التي ظلت تحت الوصاية الأميركية.
هذا الثالوث أحدث تغيّراً عميقاً في أميركا اللاتينية. ظهرت «ألبا» بعد مواجهة ناجحة في قمة الأميركتين، عام 2005، في الأرجنتين، حيث طرحت مبادرة واشنطن لمنطقة التجارة الحرة للأميركتين (FTA). عارضت الحكومات اللاتينية هذه المبادرة، فاكتفى الرئيس الأميركي حينها جورج بوش بالاندهاش. «لم أتوقع هذه المعارضة»، أعرب لنظيره الأرجنتيني.
تحت رعاية «ألبا»، تعزّزت أوجه التعاون الإقليمي في كل المجالات، مثل الصناعات البتروكيميائية، ومحو الأمية، ووسائل الإعلام، والقطاع المالي والاقتصادي. وهدفت فنزويلا من «ألبا» إلى مواجهة التكتل الذي تروج له الولايات المتحدة.
وبرز ذلك من خلال مشروعين: نفط الجنوب Petrosur، وهو اقتراح لإنشاء أربع شركات نفط إقليمية لتوحيد صناعة النفط التي تديرها الدولة على مستوى الحكومات اللاتينية. وتزوّد فنزويلا، في هذا الإطار، 18 دولة في المنطقة بالنفط مقابل دفع هذه البلاد 40% من الثمن مقدماً، ودفع المتبقي على 25 سنة كقرض بفائدة قليلة. وذلك لدفع التطور الصناعي الوطني لدول القارة وضمان وصول الطاقة إلى شعوب هذه الدول. ثانياً: قناة الجنوب Telesur: هذه القناة، أيضاً، ترويج فنزويلي لتغطية الواقع الأميركي اللاتيني، «وبثّ الأخبار من منظور شعبي». وحفزت «ألبا» العديد من مشروعات التضامن الإقليمي في مجال الرعاية الصحية والتعليم. وأخذت بتنفيذ برنامج محو الأميّة الكوبي في فنزويلا، ودعت إلى تعميمه على القارة.
كذلك أنشأت دول «الميركوسور» ودول البديل البوليفاري عام 2007 بنك الجنوب Bancsur، لتقديم بديل للمؤسسات المالية الدولية في تمويل عملية التنمية في القارة، اعتماداً على مؤسسة إقليمية وليست المؤسسات التابعة لواشنطن. بعد إنشاء البنك، انسحبت 10 من البلدان الأعضاء من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. كما اتفق زعماء اليسار الجديد على ضرورة دمج وتوحيد الكتلتين الاقتصاديتين في القارة لتشكيل قوة اقتصادية موحدة. فتكوّن اتحاد أميركا الجنوبية Unasur عام 2008 من 12 دولة لاتينية، وهو _ ككتلة _ يعد خامس أكبر ناتج محلي إجمالي في العالم والمنتج الأكبر للغذاء، ويمتلك احتياطي هيدروكربون يكفي لمدة 100 عام.
الجهود التشافيزية للوحدة الإقليمية أجّجت العداوة مع واشنطن وما تبقى من حلفائها (كولومبيا مثلاً). «أكبر صداع في رأس واشنطن»، وصفت صحيفة «وول ستريت جورنال»، التحولات الجديدة. لم يتبنّ الحكام الجدد أيّ منهج أيديولوجي أو عقائدي مقفل. كان الوضع الاقتصادي الاجتماعي لشعوبهم يعبّر عن رؤيتهم السياسية. القاعدة الأساسية كانت واضحة: الولايات المتحدة والسوق الحرة سبب فقرنا. إذاً واشنطن خصم حقيقي.
أميركا اللاتينية خسرت قائدها من دون أن تخسر المستقبل. بوصلة شعوبها تجذّرت أكثر. تشافيز وضع «البديل» على السكة وساهم في إقلاعه.



«الأب المحرر»

«فنزويلا ــ تشافيز» تعني سيمون بوليفار. «الأب المحرّر» لا يغيب عن يوميات فنزويلا. القائد العسكري الذي حرّر فنزويلا وبوليفيا، وكولومبيا، والإكوادور، وبيرو من الاستعمار الإسباني يعدّ اليوم رمزاً للمسيرة التشافيزية. حلم «الفتى الأحمر» بتوحيد أميركا اللاتينية فيه شيء من نوستالجيا «جمهورية كولومبيا الكبرى» (فنزويلا وكولومبيا والإكوادور) التي أسّسها بوليفار.
حنين أسقط على دعائم بناء «فنزويلا الجديدة». العملة أصبح اسمها بوليفار... أضيفت «البوليفارية» إلى اسم الدولة الرسمي. «أنا بوليفاري»، يعرّف عن نفسه تشافيز.
القائد الثوري المولود في كراكاس (1783 ــ 1830) حين أراد «تثوير» الشعب على الاستعمار، قال: «هل تريدون أن تعرفوا لماذا نذرونا للحقول والزراعة فيها، وللسهول الشاسعة المعزولة لرعاية قطعان الحيوانات، ولأحشاء الأرض؟ لاستخراج الذهب الذي تتعطش إليه إسبانيا».
إسبانيا الأمس ــ أميركا اليوم. وضع تشافيز المعادلة أمامه وخاض معركته بأسلوبه.
أقسم بوليفار أن يحرّر بلاده من الاستعمار الإسباني ليدخل الجيش بعدها. منذ سنوات كتب تشافيز: أما نحن، مناضلو الاستقلال، فإننا نحمل قسماً. ذلك القسم الذي حمله قائدنا سيمون بوليفار على الجبل المقدس في 15 آب من عام 1805.
نحن الوطنيين لدينا مشروع، وإننا نحمل علماً.